بعد أن كان الشرق كفؤاً للغرب من الناحية الحربية والعلمية والاجتماعية في عهد (الحروب الصليبية)، أخذ الغرب من ذلك الحين يتقدم شيئاً فشيئ، والشرق واقف على ما كان عليه منذ الحروب الصليبية، بل تراجع إلى الوراء شيئاً فشيئ بفساد حكامه وانتشار الجهل والفقر بين أبنائه.. تقدمت الشعوب في الغرب، وتحرروا وردوا (ذوي السلطان) إلى حدودهم واتصلوا بالطبيعة واستخدموها لصالحهم، وأخرجوا بالعلم كنوز الأرض فأثروا، ومكنهم الثراء من عيشة الترف والنعيم، كما مكنهم العلم من أن يقلبوا النظام الحربي القديم ويغيروا أساليبه وآلاته ونظمه حسبما أرشد إليه العلم الحديث. هذا في الغرب. أما في الشرق (فابتلى بحكام أكثرهم لا همّ له ألا نفسه وعائلته المستورثة له في المنصب والمال والجاه والتسلط في حالة وفاته). وسبَّبَ الظلم والجهل والفقر المدقع لأهل البلاد في الشرق، فالعيشة ضنك، والنفوس يائسة، والعقول مظلمة. فأصبح العالم ينقسم إلى قسمين : غرب يمتاز بغناه وعلمه وسلاحه الجيد وحريته، وشرق بفقره وجهله وسلاحه القديم وأغلاله. ومن الأخطاء التي لا تغتفر (غلطة كبرى) ما تزال نتجرع غصصها إلى اليوم، ولا أمل في النجاح إلا بإصلاحها وتجاوزها… تلك هي أننا بدل أن نصلح القديم ونرقى به، تركنا القديم على قدمه ينخر بجسد المجتمع المريض أصلاً، وأنشأنا بجانبه جديداً، وجعلنا النوعين يسيران جنباً إلى جنب يتصارعان ويتعاديان ونحن نشرب المر من تعاديهما. وكان سبب ذلك أن المصلحين خافوا من المحافظين، واتقوا ثورتهم، ولم يكن لهم من القوة ما يفرضون معه إصلاحهم ، فلجأوا إلى الطريق الآخر غير المستقيم، وهو ترك القديم وإنشاء الجديد. لهذا نجد أن الصراعات مستمرة ولم تتوقف وتأخذ أشكالاً ومنعطفات خطرة في تمزيق المجتمع إلى يومنا هذا. بعد أم كان الشرق يُعدْ (مصدر الوحدانية فمتعدد في كل شيء) ، وقد فقد الوحدة في كل شيء، وهي مصدر قوته ومنعته، لا وحدة بين المثقفين، فثقافة رجال الدين غير ثقافة الممدنين، ولا وحدة بين الجامعات والمؤسسات الإعلامية فكل جهة تسير بالخط الذي يعجبها ويساير أهدافها وتدور في فلك الجهة المرتبطة بها سياسياً أو عقائدياً. الذي تجد نفسها في (حلقات مفرغة) لا نعرف متى يسمح لها بالخروج لتمارس حريتها في اتخاذ قراراتها المستقلة!. ولا وحدة بين السياسيين تحدد مسيرتهم وفق برنامج وطني يخدم الصالح العام فأكثرهم (لا يشبع من الأرقام المليونية الدولارية ولا يكترث للجياع والبؤساء من أبناء شعبهم، ولا وحدة بين التجار فالمضاربة والتنافس غير الأخلاقي سلاحهم لتحقيق أرباحاً طائلة على حساب الفقراء الذين يشكلون نصف سكان البلد. ولا وحدة بين أي شيء وشيء، وفي هذا خطر كبير من الناحية الخلقية والاجتماعية نعاني متاعبه منذ أكثر من نصف قرن وحتى الآن. فالعقليات لم تجد فيها أساساً مشتركاً، هذا هو سر الصراع الحاد الدائم فيما بيننا، ويظهر ذلك بأحلى مظاهره في المجالس التي تتكون من العناصر المختلفة. ولا سبباً للعلاج إلا بإصلاح هذه الغلطة من أساسها من توحيد التعليم، وتوحيد القضاء، وتوحيد المعيشة الأجتماعية، والأهم من كل ذلك صياغة عمل وطني شامل تتفق عليه القوى الوطنية كافة لانقاذ الجماهير من البؤس والشقاء الذي وجدت نفسها فيه قبل سقوط النظام وبعده الذي كان أشد إيلاماً وتعذيباً وإزالة الفوارق الطبقية التي باتت تهدد كيان المجتمع . والأقتداء بالآية الكريمة (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد : 11) صدق الله العظيم .
مقالات اخرى للكاتب