هو السؤال الأكثر حساسيّة من بين الأسئلة غير المجاب عليها عراقيّاً. وإنّ خطورة عدم التمكّن من تحديد إجابة واضحة عليها، ترتبط في شكل مباشر بمصير الحرب على تنظيم "الدولة الإسلاميّة – داعش" وبالمساعي التي تبذل على مستوى الحكومة العراقيّة أو القوّات الأميركيّة والمجتمع الدوليّ، في دعم مقاتلين من المناطق السنيّة يتولّون مهمّة تحريرها من سيطرة التّنظيم.
وفي نهاية أكتوبر المنصرم، أشار رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأميركيّ الجنرال مارتن ديمبسي إلى أنّ بلاده تسعى إلى "توسيع مهمتها في العراق لتشمل تدريب القبائل العربيّة في الانبار".
كما أنّ رئيس مجلس النوّاب العراقيّ سليم الجبوري اكد في 11 نوفمبر الجاري أنّ تسليح العشائر أصبح وشيكاً.
وإنّ تسليح العشائر ترجمة حرفيّة لمشروع تشكيل "الحرس الوطني" من المقاتلين المحليّين في المدن، وهو المشروع الذي لم يقرّ برلمانيّاً حتّى اليوم، رغم أنّه ضمن البرنامج الحكوميّ المعلن، وهذه الفكرة يؤيّدها سياسيّون سنّة، ويطالبون بالإسراع في تطبيقها، لكن يشكّك فيها بعض السياسيّين الشيعة، من بينهم نائب رئيس الجمهوريّة نوري المالكي.
والمفارقة أنّ المالكي كان أعلن في 15 يناير الماضي أيّ بعد أيّام من احتلال "داعش" لمدينة الفلّوجة، وعندما كان رئيساً للحكومة، نيته تسليح عشائر الموصل، التي لم تكن قد سقطت بعد في يدّ "داعش".
وإنّ أفكاراً مثل تسليح العشائر أو تشكيل الحرس الوطنيّ، وصولاً إلى الإقليم السنيّ، تتباين في تعريفها حتّى داخل الوسط السنيّ نفسه، ناهيك عن تباين المواقف منها اقليميا ودوليا.
إنّ أزمة التّمثيل السنيّ في العراق عميقة الجذور، وهي ترتبط بقيادة السنّة للدولة لعقود طويلة. وبعد عام 2003، كانت الأرضيّة مناسبة لظهور تمثيل شيعيّ يتشكّل من الأحزاب الإسلاميّة والمرجعيّات الدينيّة، وتمثيل كرديّ يتشكّل من الأحزاب القوميّة والمرجعيّات القومية، ممّا ساعد الطرفين في ترتيب أوراق تقاسم كعكة الحكم باكراً، تاركين السنّة يتخبّطون في البحث عن ممثلين لهم.
لا يمكن القول اليوم إنّ الطبقة السياسيّة السنيّة الحاليّة تحمل صكّ التّمثيل في جيبها على أساس نتائج الإنتخابات. ففي المقابل، هناك طبقة أخرى غير ظاهرة في شكل واضح تمثّل السياسيّين السنّة الصقور أو المؤثّرين، الذين إمّا يرتبطون بالنّظام السّابق وحزب البعث، أو بمجموعات مسلّحة قاتلت القوّات الأميركيّة، أو بتوجّهات دينيّة، أو متّهمين في فترة حكم المالكي بالإرهاب، أو تلقى الدّعم من دول أخرى.
إنّ طبيعة المذهب السنيّ وتقاليده، لا تتيح إنتاج مرجعيّات دينيّة تقليديّة تنال إجماعاً أو غالبيّة أو تأثيراً حاسماً على غرار المرجعيّات الشيعيّة. كما أنّ الجانب القوميّ في الذاكرة السنيّة ارتبط بحزب البعث، الذي أقصي من المشهد بعد عام 2003.
وإنّ العشائر الّتي تطرح اليوم كممثّل للسنّة، لا تمتلك مصداقيّة حقيقيّة على الأرض، فهي منقسمة على نفسها في شكل حادّ وتخوض صراع التّمثيل داخلها. وإنّ التجارب السياسيّة الممتدّة طوال القرن العشرين، استخدمت الصراع العشائريّ كأداة سياسيّة.
لقد تعاملت حكومة المالكي (2006 – 2014) مع التّمثيل السنيّ من زاوية انتقائيّة، فدعمت شخصيّات أكثر قرباً لسياساتها حتّى لو كانت لا تمتلك أرضيّة حقيقيّة لهذا التّمثيل، وأبعدت وضربت الأكثر معارضة لسياساتها حتّى لو كان يمتلك تلك الأرضيّة.
ففي بداية العام الحاليّ، دعم المالكي بالمال والسلاح مجموعة من الزعماء القبليّين والسياسيّين على أمل تحويلهم إلى ممثلين للسنّة، ومن بينهم أحمد أبو ريشة، الذي أعلن في أبريل الماضي أنّه يوشك على تحرير الفلوجه من أيدي "داعش"، لكن ما حدث هو عكس هذا تماماً.
هناك إجابات عدّة عن الوضع السنيّ بعد عام 2003، وأبرزها، أنّ فكرة تقسيم العراق على أساس ثلاثة مكوّنات (شيعة وسنّة وأكراد) لم تنسجم مع السنّة في العراق الذين وجدوا أنّ هذا التّقسيم يحوّلهم إلى أقليّة، ممّا دفعهم إلى مقاطعة الانتخابات مراراً، وعدم الاعتراف بالسياسيّين في البرلمان كممثلين لهم.
إنّ دعم السنّة إياد علاوي (علمانيّ شيعيّ) لتمثيلهم في عام 2010 كان مثالاً على محاولة التمرّد على التقسيم المكوّناتي الثلاثيّ، ممّا دفع الشيعة في العراق إلى تجاوز خلافاتهم لمنع خروج الحكم من داخل منظومة "التحالف الوطنيّ"، التي تمثّلهم سياسيّاً.
ولم تساعد فترة حكم المالكي السنّة على البحث عن إجابات لسؤالهم الحائر عن الطرف الذي يمثّلهم، بل إنّ المالكي ضرب شخصيّات سياسيّة كانت مؤهّلة أن تشكّل نواة التّمثيل السنيّ مثل وزير المال السّابق رافع العيساوي.
وبالطبع، لم تكن عشرات الشخصيّات السياسيّة والدينيّة والقبليّة الأخرى الّتي تعرّضت لاتّهامات وأحكام قضائيّة بدعم الإرهاب مؤهلة للحديث باسم السنّة، بل إنّ رجل دين مثل الشيخ عبد الملك السعدي عرض نفسه بعد تظاهرات عام 2013، كمرجعيّة دينيّة سنيّة متّفق عليها.
لم تستثمر حكومة المالكي الإجماع السنيّ النّادر عليه، للبدء في تحقيق إصلاحات حقيقيّة تطمئن السنّة إلى المدى البعيد. وإنّ مرحلة السعدي اضمحّلت بصعود تنظيم "داعش" وسيطرته على مدن سنيّة كاملة. وكان إعلان السعدي نفسه في 31 أكتوبر الماضي أنّه توقّف عن إصدار الفتاوى لأن احدا لا يصفي اليه، دليل على أنّ بروز ممثلين واضحين للسنّة في العراق سيستمرّ باعتباره أمراً غير محسوم وأن المزاج السنيّ سيكون على الدوام قابلاً للتبدّل حول ممثليه.
إنّ حساسيّة القضيّة السنيّة مرتبطة، في الأساس، بمستقبل الحكم في العراق، قبل ارتباطها بطرد تنظيم "داعش" من المدن السنيّة. وإذا كان مشروع العراق المستقبليّ سيتجاوز التّقسيم الثلاثيّ (سنّة، شيعة، أكراد) إلى الدولة الوطنيّة العابرة للطوائف - وهذا أمر يصبح مستبعداً يوماً بعد يوم– فإنّ الوضع السنيّ الحاليّ هو قابل للتكيّف مع إعادة إنتاج العراق بهذه الصيغة.
لكن إذا كان مشروع الدولة في العراق سائراً في اتّجاه تكريس التّقسيم والتّمايز العرقيّ والطائفيّ، فإنّ مهمّة الأطراف السياسيّة المحليّة والإقليميّة والدوليّة، هي السعي إلى دعم ممثلين حقيقيّين وأقوياء لسنّة العراق، يقع على عاتقهم إبرام عقد شراكة صريح مع المكوّنات الأخرى.
مقالات اخرى للكاتب