في القدم .. كانت القبيلة أو العشيرة هي النظام السائد والحاكم في المدن والولايات ... لان الناس كانوا منتظمين بموجب نظرية العقد الاجتماعي ..اتفق المتعاقدون على أن يكون شخص ما من بينهم صاحب السلطة الآمرة ورئيسها..يحكمهم وينظم أمورهم ويحفظ أمنهم واستقرارهم بموجب قواعد وعادات وتقاليد حيث كان لكل قبيلة دستورها الخاص ومساحة وحدود ومصالح اقتصادية وأمنية خاصة بها .. إلا أن توسعت اطر الدولة وأصبحت ذات نظام حكم موحد وسيادة واحدة أي دستور واحد وقوانين واحدة كلها خاضعة تحت سيطرة الدولة وما القادة والحكام إلا موظفين لتطبيق وحماية قوانين وسيادة الدولة ...
ما نعيشه اليوم من تناقضات سلوكية وانتهاكات إنسانية نتيجة تكسر نظام المدنية وتراجع الرقي الحضاري في عموم مجتمعنا العراقي ... سببها الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة فبعث صدام قام بانقلابات ديموغرافية واسعة في عموم مدن العراق فقد قام بتكريد مناطق وتعريب أخرى .. دمج الريف بالحضر عبر التشجيع على ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة حيث قام بدعم الفلاحين وإغوائهم على السكنى في المدن .. خطط شريرة الهدف منها خلق أنصار وأتباع لهم في المدن مقابل ذلك محاصرة الطبقة المدنية المثقفة ذات العقلية الجدلية المتأصلة .. ونفس الشيء بعد سقوطه ..دخلنا بمرحلة الهلوسة الانتخابية المرتكزة بشكل أساسي على أصوات العشائر ودعم القبائل للأفراد الكتليين بشكل يمكنهم من الحصول على مناصب إدارية مهمة أو وظائف عادية وفق نظام الحصص الحزبية والمناصرات وما شابه كما هو معروف للجميع اذكر على سبيل المثال محافظ واسط في فترة زمنية ما.. كان من أهالي قرية الحي ( قرية زراعية متكونة من بساتين ودواجن تقع إطراف مدينة الكوت ) قد وظف اغلب أبناء هذه القرية في الكوت بين أفراد أمن أو شركات أو وظائف إدارية بمختلف الدوائر والمؤسسات حتى بتنا نسمي الحي ب العوجة قرية صدام المحبوبة...
المقصد من ذلك .. إن الدخلاء على المدنية يعانون من صدمة حضارية بين التقليد الغربي والنزع الريفي لا يحملون شيء من الحضارة المعاصرة وبالتي اثروا سلبيا على الجو العام المدني والإنساني بسب ما يحملوه من عادات وتقاليد وموروثات بالية لا تنسجم إطلاقا مع سير الحياة العصرية الحديثة ، بل تعمل ضد التطور والتقدم ويبقى الفرد في إطار قيود من التقليد..فهم لا يتعاملون مع قانون الدولة بل يحتكمون إلى نظمهم العرفية المخالفة للقانون والمنتهكة للحقوق الإنسانية أحيانا كثيرة ..
مثال على ذلك ... حادث مروري اصطدام سيارتين يحل الموضوع عشائريا ربما المعتدي والمخالف يأخذ حق فصلي(قدر معين من المال بحجم الضرر تقرره العشيرة ) لصالحه أكثر من المتضرر نفسه ربما لان الأخير قد على صوته آو تسبب بشتيمة أو تشابك أيدي أو صفعة كرد فعل انفعالي طبيعي الحدوث بمثل هكذا مواقف إلا إنه جرم وتعدي بنظر العرف العشائري فتحسم القضية لصالح المعتدي المخالف وفق نظامهم ... وكذا طفلة تبلغ من العمر أربع سنوات تغتصب وتذبح وترمى بالشارع لتأتي عشيرة المجرم وتدفع دية وتمسح آثار دمها ...
كذلك جرائم الشرف وغسل العار لم تكن لتحدث إطلاقا في المدن وكنا نسمع عن حدوثها بالأرياف والمناطق البدوية أيام زمان .كان الرجل فيه يحترم المرأة كثيرا ويقدر شعورها وكيانها ولها مطلق الحرية والاختيار بعيدة عن الكبت والأطر غير الشرعية وكان الحب صادقا ومرسال الغرام مصونا .. والمرأة ترتدي أجمل الملابس من التنورات القصيرة والجينزات والشعر وحسب الموديلات .. إلا أن غزا الدخلاء المدن وتغيرت معالم وأذواق المدينة من مأكل وملبس و ثقافة لهجة وعادات عرفية وتقييدات لا منطقية وأمست المدينة صحراء خاوية من جمال المرأة والحياة العصرية ....
من جرائم غسل العار ... طالبة في احد جامعات بغداد غابت عن دوامها في ظروف غامضة وكان أبوها وأخوها يترددون للجامعة بالسؤال عن سبب اختفائها بوجه متهجم ودم بارد, وبعد اعتقال سائق خطها التوصيلي ما بين الجامعة وبيتها تبين أن السائق قد أوصلها إلى المنزل في يوم اختفائها كالمعتاد وكشفت الحقائق أن أهل الضحية قد قتلوها غدرا بتهمة العار وقاموا بإخفاء جثتها ....
وهناك العشرات بل المئات من هذه الجرائم تحدث كثيرا بالآونة الأخيرة من ذلك استهتار بعض الشباب الدخلاء ( المنصدمون الجدد بالمدنية ) والاستخفاف بإعراض النساء لان العشيرة تحميه والقانون يحميه وما شابه ..يفعل جريمته وينفذ منها كما الشعرة من العجين ...فيقدم المجرمون على قتل بناتهم وحرق جثثهم لتشويهها ورميها بعيدا عن مناطق سكناها .. والغريب الشنيع في الأمر أن الكثير من الضحايا يقتلن وهن عذراي.. بالجهل والشك بعذريتهن او لمجرد كشف أمرهن بعلاقة تواصل الكتروني فقط مع زميل لهن بالعمل أو بالدراسة أو من عالم التواصل الاجتماعي .. فالعذر المخفف لجرائم الشرف قانونا والعرف العشائري اللاإنساني كفيلان بتبرئة المجرمين .. وخصوصا في ظل التقشف بالمخصصات المالية لجميع وزارات ودوائر الدولة وانخفاض متعمد وتدريجي في الرواتب ...فالرشاوى ونظام دفع الكفالات والمحسوبيات الحزبية والسياسية تعمل بكل سلاسة على تغطية وإخفاء مثل هكذا جرائم .. ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ... هناك الكثير من العادات والتقاليد لا تعود بمنفعة وأصبحت ضربا من الماضي ويبقى الفرد في إطار قيود من التقليد قد تدمر الكثير من أحلامه وطموحاته، خصوصاً أن هناك الكثير من العادات التي لا يستفيد منها الإنسان شيئاً، ولا تعود عليه بأي منفعة مادية أو معنوية تذكر، وإنما تعكر عليه صفو الحياة وتسلب من سعادتهإن النوعية السيئة من العادات إذا ما امتزجت بالتحول الثقافي المفاجئ وبالتقليد الأعمى للحضارة الغربية، ستؤدي حتماَ إلى تربية سقيمة ولو رويداً رويداً، ولهذا فإنه من واجب كل فرد ينتمي إلى المجتمع، مكافحة العادات الضارة والفاسدة التي تهدد صرح الأخلاق بالانهيار والسقوط وباختصار العادات والتقاليد قد بنت شعوب و حضارات كتلك العادات المرتبطة بالأخلاق القيمة الإنسانية الأصيلة للمجتمع كالصدق الشجاعة الكرم الشهامة ..
وللمرأة تأثير فعال في نشر العادات والتقاليد، وانتقالها من جيل لآخر، نظرًا لدورها الكبير في تربية وتنشئة الأجيال، وبذلك يقع عليها الدور الأكبر في ضبط هذه العادات والتقاليد فهناك الكثير منها لا تحمل قيم إنسانية ..كجرائم الشرف المختصة بإعدام حياة المرأة فقط .. أمر لا منطقي أبدا وغير مقبول بتاتا فالحياة ملك الله وحده من يمنحها لنا ويأخذها منا متى شاء لا يحق لأي كان سلبها من الآخرين إلا في حالة من اعتدى على عرضك أو حياتك أو مالك .. فمن يحق الإعدام هو المعتدي الجاني لا الضحية المجني عليه ..فالضحية لا تسكب حقها مادام المجرم لا يأخذ صفة المجرم.. على المرأة أن تعي قدر نفسها وتهذب الرجل وتيني مجتمعها على أساس العدالة والمساواة .. وتدمير كل أعراف وتقاليد التمييز العنصري الممارس ضدها . بتجنب تلك النظرة الدونية لنفسها إنها عورة أو عقل ناقص بل عليها أن تعلم إنها إنسان بأكبر عقل وأنضج روح وألطف جسد ..فلتتعامل على أساس ذلك وتبني نفسها وتطورها فالمجتمع يبنى على مقدار توعية المرأة ونيلها لحقوقها وممارسة حريتها ..
(َوَلكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)....
مقالات اخرى للكاتب