البشر مخلوقات لغوية , ولا يمكنها أن تكون موجودات صامتة , فاللغة من أهم علائم حياتها وآليات تفاعلها , ولولا اللغة لما تحققت الحياة وتطورت.
وأنى تكون اللغة يكون الناطقون بها , والموجودون فيها , والمتحققة بهم.
فاللغة مرآة أحوال البشر !!
كنت في اليابان , وتعبت من البحث عن شخص يتكلم غير اليابانية , وعندما سألت صاحبي الياباني عن السبب , أجابني : الشعب لا يحتاج لغة أخرى , فلغتنا تكفينا , ونفخر بها وتفخر بنا!!
صعقتني كلماته , فاللغة تتفاخر بأهلها , وهم يتفاخرون بها , وتلك حقيقة سلوكية بشرية ذات قيمة حضارية وإبداعية وإنسانية , فالعزة تتحقق بعز اللغات , والقوة تكون بقوة اللغات , والمجد يتجسد بمجد اللغات!!
ولايمكن الفصل بين أحوال الأمم والشعوب وأحوال لغاتها , فإن سطعت لغاتهم وإنتشرت , فهم الساطعون السائدون , وإن خبت لغاتهم وضعفت , فهم الضعفاء المُستعبَدون.
وكم إنقرضت أمم بإنقراض لغاتها , فالمسيرة البشرية تحدثنا عمّا لا يُحصى من الأمم والحضارات , التي إندثرت بإندثار لغاتها , ولهذا تجدنا أمام آثار مكتوبة بلغات نجهلها , وقد فككنا رموز بعضها كالسومرية والفرعونية وغيرها من الأبجديات الغابرة.
ولكي تقضي على الأمة عليك بإستهداف لغتها , بإضعافها والإستهانة بها , وتقليل أهميتها , وتصغيرها عند أهلها , ودفعهم لكراهيتها والنيل منها , والسعي نحو لغة أخرى غيرها , لكي تلد الأمة أجيالا مضادة للغتها وتنكر أبجديتها , وتذوب في غيرها من الأمم , حتى لتضيع الهوية والعلامات الفارقة , وتصبح اللغة تراثا أو تأريخا , وبمرور القرون تندثر وتغيب.
وما يحصل للغة العربية يصب في هذا الإتجاه , ويسعى لتغريب أهلها عنها , وتعجيم ألسنتهم , وتدمير ثقافتهم , وتجفيف ينابيع مفرداتهم , وتغريرهم بإعتماد لغات أخرى غير لغتهم , وإيهامهم بأن المشكلة في لغتهم , وعليهم أن يتخلصوا منها لكي يتقدموا ويعاصروا , فلغتهم هي معين البلاء , والمتهم الأول بويلاتهم ونواكبهم , وتلك إدّعاءات نكراء.
فمن هم العرب بلا لغة عربية؟
ومن هم الفرنسيون بلا لغة فرنسية؟
وقس على ذلك , فاللغة لها علاقة صميمية بالوطنية والأمة والحضارة الإنسانية , فلا توجد مسيرة بشرية متميزة من غير لغة متوافقة معها.
والعرب عندما أبحروا في محيطات لغتهم , وحلقوا في أكوانها المتسعة الشاسعة , إستخرجوا جواهر القدرات والطاقات الحضارية , التي أهلتهم للقيادة والريادة والإقتدار الإبداعي الأصيل.
وبإبتعاد العرب عن لغتهم , ضعفت عقولهم , وخوت أفكارهم , وترعرعت في مستنقعات وجودهم العواطف السلبية , وتحوّلوا إلى موجودات منفعلة , عاجزة عن التعبير بلغتها عمّا فيها , ومُسخرة لردود الأفعال الإنعكاسية السيئة النتائج.
وعليه , فأن من الواجب والمسؤولية المصيرية أن يهتم العرب بلغتهم ويحترمونها , وينطقونها ويكتبون بها بإنضباطية نحوية صارمة , لكي ترقى عقولهم وتتهذب نفوسهم وتنير أفكارهم.
فاللغة هي الأرضُ والإنسانُ والفِكَرُ !!
مقالات اخرى للكاتب