العراق يندفع بشدة نحو التطرف والارهاب، فهناك زعامات عشائرية وسياسية سنية تحالفت مع "الدولة الاسلامية" من اجل الاطاحة بحكومة بغداد بعد ان عجزت عن الوصول الى اهدافها عبر التظاهرات ومنصات الاعتصام، يقابلها تحشيد شيعي، ليتحول المشهد الى مواجهة طائفية مذهبية للدفاع عن الوجود والمعتقدات اكثر من الدفاع عن الوطن.
كشفت المعلومات والتحقيقات التي حصلت عليها الاستخبارات العراقية تفاصيل جديدة عن تنظيم "الدولة الاسلامية" ـ داعش سابقا، هذه التفاصيل تضمنت معلومات عن قيادات التنطيم واخرى عن سياسات وتفاصيل حركة ونشاط الجماعة. المعلومات قادت الاستخبارات العراقية الى اعتقال بعض القيادات من الخط الاول قبل وبعد اجتياح الموصل يوم 10 يونيو 2014، حيث اعلنت وزراة الداخلية، مطلع شهر يونيو 2014، عن مقتل رئيس المجلس العسكري لـ"داعش" المدعو ابو عبد الرحمن البيلاوي واعتقال قيادي اخر بالتنظيم خلال عملية امنية نفذت في الموصل. المعلومات كشفت بأن "امير الدولة الاسلامية ابراهيم عودة البدري" المكنى بالبغدادي، يرتكز في عمله على مجموعة مستشارين عسكريين واركان من النظام العراقي السابق ماقبل 2003 واغلبهم من المنطقة الغربية ولديهم امتدادات عشائرية في سوريا. لقد نجح البغدادي في ادارة مستشاريه رغم عدم توفر الخبرة في ادارة الجماعات او الاشخاص، كون خبرته تنحصر بتدريس مادة الحديث والفقه، ورغم وجود معلومات بانه قاد احد التنظيمات "الجهادية" قبل التحاقه في "الدولة الاسلامية" في العراق انذاك تحت زعامة ابو عمر البغدادي حتى 2010، لكن تدرجه بشكل سريع والوصول الى قيادة ورأس هرم التنظيم بفترة لا تتجاوز بضعة سنوات بعد اطلاق سراحه من سجن بوكا عام 2004 والصعود عام 2010، يثير الكثير من التسائولات.
الشهادات اظهرت وجود اختراق مخابراتي للتنظيم، لذا ركز ابو بكر البغدادي على البنية الأمنية مع تأسيس دولة العراق الإسلامية 2006وصعود ه عام 2010. عمل البغدادي بعد خروجه من المعتقل ساعي بريد في "الدولة الاسلامية" مهمته استلام وتسليم التقارير والرسائل السرية وخلال تلك الفترة خرج من السجن العميد الركن محمد الندى الجبوري المعروف بالراعي والذي استلم قيادة أركان الدولة، والعميد الركن سمير عبد محمد المعروف بـ حجي بكر نائباً له، الاخير كان له دورا بارزا في ادارة العمليات والتنظيم حتى مقتله شهر يناير 2014 في سوريا، ليحل محله اللواء ابو مسلم التركماني.
المعتقلات في العراق كانت تحت السيطرة الاميركية ويتم عزل السجناء او المعتقلين على اساس الانتماء الطائفي ـ هوياتي، اي ان مقاتلي القاعدة والتنظيمات "الجهادية" كانوا بعيدا عن المعتقليين من الشيعية او الميليشيات الاخرى. وهذا يعني بأن نشاط البغدادي ضمن التنظيمات "الجهادية" كان قائما، مع الاخذ بالاعتبار ان القوات الاميركية كانت تحرص على اعادة تجنيد المعتقليين واعادتهم الى الاوساط "الجهادية". السؤال الذي يثير التسائولات هو سرعة صعود البغدادي! وهذا يرجح بان البغدادي كان عميلا مزدوجا الى القوات الاميركية رغم عمله داخل الاوساط "الجهادية"، ورغم ذلك يبقى في اطار التحليلات، كون العميل المزدوج يحصل على معلومات من الجانب الاميركي ويسربها الى التنظيم "الجهادي" البعض منها مفبركة والبعض الاخر تكون معلومات حقيقية لغرض كسب ثقة التنظيم بالبغدادي او باي عميل مزدوج، ان حصول العميل المزدوج على تغذية بالمعلومات وتغذية عكسية تمكنه من كسب ثقة التنظيم ومنحه ادوار قيادية وهذا مايحصل في روايات الاستخبارات، فهنالك الكثير من العملاء المزدوجين وصلوا الى صدارة المواقع القيادية، وما يدعم هذا التحليل هو ان سيرة البغدادي تنقصها الادارة والحوكمة والخبرات العسكرية، عكس ماتناقلته بعض وسائل الاعلام. البغدادي اعتمد المعلومات الاستخبارية داخل التنظيم، لتكون علامة فارقة عند البغدادي وتنظيمه حتى وصف بانه يقوم على الشراسة الاستخبارية اكثر من القدرة والقوة العسكرية، وهذا يعني ان البغدادي حصل على خبرات استخبارية داخل المعتقل ليوظفها تنظيميا بعد خروجه. إن ادارة البيت الابيض ووكالة الاستخبارات المركزية، لم تعلن اي معطيات او معلومات عن البغدادي رغم اعلان الاستخبارات العسكرية العراقية عنها وان تحفظ الولايات يرجح بانها كانت متورطة بتجنيد البغدادي ضمن سياستها بتفريخ الجهاديين داخل معتقلاتها.
إن ادارة المستشاريين من العسكر من قبل شخص غير عسكري مثل البغدادي ليس بالهين وفي الغالب يكون مرفوضا، لكن البغدادي استطاع وبنجاح توظيف قيادات التنظيم من العسكر ويحركهم وفق إستراتيجية التنظيم التي تقوم على رسم خارطة "الدولة الاسلامية" وتنفيذ الخطط على الارض، وربما يعود الى عامل اخر، هو حصول البغدادي على الاسناد والدعم والتمويل ومسك مصادر التمويل بنفسه، اي ان البغدادي هو حلقة الوصل، بدونه لايستطيع قادة العسكر ومستشاريه الحصول على تدفق التمويل والدعم ومايدعم هذا ان المعلومات كشفت بأن البغدادي يشرف على مصادر التمويل بنفسه. السؤال هو من اين يحصل البغدادي على التمويل؟ كون التنظيم المركزي للقاعدة لم يمده بالمال منذ نشأته حتى انشقاقه عن الظواهري في ابريل 2013، وهذا يعني ان هنالك مصادر تمويل على مستوى حكومات تكفلت بتمويل البغدادي، ومايزيد بالقضية تعقيدا انه لم يحصل اي تسريب حول تمويل البغدادي لا على مستوى المعلومات المؤكدة ولا التحليل. يشار بأن تنظيم "الدولة الاسلامية" في العراق انذاك تحول الى شبكة لجمع الاتاوات في العراق خاصة في محافظة الموصل وضعفت عملياته حتى نهاية مطلع عام 2012 بعد انسحاب القوات الاميركية في ديسمبر 2011، اي ان الدعم المالي للبغدادي تدفق اكثر بعد الانسحاب الاميركي؟ يعتبر تنظيم "الدولة الاسلامية" من اكبر التنظيمات "الجهادية" الذي يتمتع بامكانيات مالية، فقبل سيطرته على منابع النفط في سوريا ـ الرقة او المناطق الشمالية والشمالية الشرقية، استعرض التنظيم بارتال من مئات السيارات ذات الدفع الرباعي في محافظة الانبار وفي حزام بغداد، هذه القدرة مكنت التنظيم من ابتلاع تنظيمات اسلاموية اخرى والانضمام الى صفوفه مابين الترغيب والترهيب، بعد ان ضمن الى مقاتليه دفع مرتبات جيدة وتسليح عالي. لقد جمع البغدادي الخبرات العسكرية مع الولاء العقائدي، وهو ذات الاساس الذي اعتمدته ايران مع الحرس الثوري وفيلق القدس.
مستقبل "الدولة الاسلامية" في العراق وسوريا
مايجري الان في العراق ان "الدولة الاسلامية" تتقاسم الادوار مع زعامات العشائر السنية في المنطقة الغربية والشمالية الغربية من العراق، فهي تمسك الارض بالتنسيق مع المجموعات المسلحة الاخرى ابرزها الجيش الاسلامي ورجال الطريقة النقشبندية وتنظيم البعث، يشار ان بيعة عزت الدوري الى البغدادي، اثارت الكثير من الخلافات داخل اوساط تنظيم حزب البعث، والتي ممكن تفسيرها ان "الدولة الاسلامية" ورايتها هي من يقود التمرد او ماتسمى "بالثورة" في العراق وبقية الفصائل تكون ضمن صفوفها. اما دور زعامات العشائر، واعضاء في البرلمان العراقي فقد منحت "الدولة الاسلامية" الغطاء السياسي والاعلامي، وما كان انعقاد مؤتمر عمان "لثوار العشائر" هو الخطوة الاولى باتجاه تحويل حركة التمرد من حركة مسلحة الى حركة سياسية تحاول الحصول على التأييد الاقليمي والمحلي والدولي، هي خطوة بأتجاه اعادة التنظيم. ان تحالفات "الدولة الاسلامية" مع العشائر ومع تنظيم البعث والعسكر، لايمكن لها المطاولة، التقاطعات والخلافات بدئت تظهر وسوف تظهر على شكل مواجهات مسلحة وهي تستنسخ مشهد الجيش السوري الحر مع "الدولة الاسلامية" والنصرة وفصائل قاعدية في سوريا. الملاذات والحواضن هي احدى الركائز التي تقوم عليها "الدولة الاسلامية" وهي تعيد للاذهان " الصحوات" العراقية عام 2005 وكيف تقاطعت العشائر في المنطقة الغربية لتقاتل القاعدة. لقد استطاعت "الدولة الاسلامية" من استعادة ما فككته الحكومة العراقية والقوات الاميركية بقيادة باتريوس بتحالفها مع عشائر المنطقة الغربية عام 2005 ـ 2006 في محاربة الارهاب، الان هنالك مسار عكسي "للدولة الاسلامية" والمجموعات المسلحة والعشائر، التي توحدت جميعها ضد الحكومة المركزية، لكن هذا التحالف سوف يشهد الكثير من التقاطعات بسبب تقاطع المصالح والايدلوجيات بين مكونات "الدولة الاسلامية" والعشائر. هذا يعني ان مستقبل "الدولة الاسلامية" في المنطقة الغربية بات مرهونا بموافقة اهالي المنطقة الغربية وزعاماتها العشائرية.
التجربة في افغانستان اي بالعلاقة مابين القاعدة وطالبان التي مثلها المعنيين بالتنظيمات "الجهادية" والقاعدة بأنها مثل البصلة وقشرتها والتي يصعب الفصل بينهما، لكن الحقائق برهنت ان اصحاب الارض هم اصحاب القرار اي ان طالبان كانت هي صاحبة القرار بابعاد القاعدة التي تمسكت ب"عولمة الجهاد" عكس طالبان التي كانت معنية بارض افغانستان، هذا ممكن ان ينطبق على الوضع مابين عشائر الانبار التي تقابل طالبان في معادلتها مع القاعدة او "الدولة الاسلامية". أن استمرار "الدولة الاسلامية" في المنطقة الغربية والشمالية الغربية ومطالبة زعامات العشائر بالانفصال او اقامة اقليم على غرار الكورد شمال العراق من شأنه ان يخلق دولة سنية تنقصها الكثير من مقومات الدولة ومنخورة من قبل الارهاب وتنظيم "الدولة الاسلامية" من الداخل، هذه الدولة ستكون ضعيفة امام دولة كوردستان العراق في الشمال التي تتمتع بمقومات الدولة كاملة وحكومة بغداد ذات والمكون الشيعي في الجنوب بتحالفها اكثر مع ايران. إن استمرار "الدولة الاسلامية" على المستقبل البعيد في المنطقة الغربية والشمالية الغربية، يهدد سحب اطراف اقليمية تأييدها الى بعض الزعامات العشائرية في المنطقة، لان هذه الاطراف لا تريد وجود تنظيمات ارهابية عند حدودها.
"الدولة الاسلامية باقية"
"الدولة الاسلامية" في المنطقة الغربية والشمالية الغربية من العراق لم تاتي لتغيير حكومة بغداد، اي ان دورها لم يكون محدد في تغيير الحكومة، بقدر ما هو اقامة الدولة الافتراضية، وهذا يعني انها باقية وفقا الى شعارها المركزي، و ستكون مرفوضة من قبل جميع الاطراف ماعدا تلك الاطراف التي تستخدمها ورقة ضاغطة في اللعبة السياسية وبشكل خفي. الدولة الافتراضية مرفوضة ايضا من قبل تنظيم القاعدة و غالبية التنظيمات والفصائل "الجهادية"، وقد اعلنت مشايخ الفكر السلفي الجهادي رفضها الى هذه الدولة وكذلك الازهر التي اكد بانها مرفوضة وتتعارض حتى مع الفقه وقواعد الشرع التي تقوم عليها الخلافة.
ابو بكر البغدادي رغم انه مدرس مادة الشريعة الاسلامية وذات سيرة اسلاموية لكن يؤخذ عليه بانه لم يضيف شيء الى الفكر "الجهادي" من نتاجات فكرية، ما قام به هو انجازات عسكرية على الارض استقطبت الكثير من الشباب والفصائل، ومن المتوقع انه سوف يواجه انحسارا وتقلصا في التشظي الفكري عكس مايحصل للقاعدة يقابله ايضا تقلصا في الجغرافية التي يسيطر عليها، فبعد ان كان يتوعد وصول بغداد منذ يوم 10 يونيو 2014، فان القوات العراقية استطاعت ايقاف هجمات البغدادي والمجموعات المسلحة المتحالفة معها وربما استعادت عنصر المبادئة. الفريق الركن وفيق السامرائي يقول :"أن داعش فقد زخم التعرض على نطاق مهم، وإن القوات العراقية قامت بحملة إعادة سيطرة على مناطق في محيط بغداد وشددت ضغطها في مناطق الگرمة والصقلاوية غرب بغداد، واستنزفت قدرات داعش في تكريت وديالى وهذه فرصة تاريخية لأي جماعات مسلحة أخرى لاعلان الرفض القوي لمشاريع داعش بإقامة إمارة وولايات قاعدية".
المواجهات مابين الحكومة المركزية والميليشيات العراقية التي تقاتل ضد "الدولة الاسلامية" وحركة التمرد من شأنها تصعد حدة الخلاف مع الحكومة وتزيد من الكراهية وتخلق خصوم جديدة، بسبب نزوح وتعرض سكان المناطق للخسائر في الارواح والممتلكات نتيجة المواجهات المساحة. وماتعرضه شبكة التواصل الاجتماعي من مواد دعائية واعلامية تعكس تصعيد الاقتتال والمواجهة الي تحولت في الحقيقة وكأنها تحشيد ومواجهات مذهبية طائفية. "الدولة الاسلامية" والتنظيمات "الجهادية" لايمكن ان توجد الا وسط دولة ضعيفة او فاشلة، هي خير من تستغل غياب السلطة، لذا كثيرا ماتوصف الى جانب القاعدة بالانتهازية. "الدولة الاسلامية" سوف تخسر ترسانتها من الاسلحة تدريجيا وقدرتها وسوف تشهد العد العكسي امام القوات العراقية وكذلك في سوريا مع احتمالات الانشقاقات الداخلية والتفرغ الى مواجهات مسلحة مع بقية الفصائل، فهي سبق لها ان استقوت على القاعدة وشيخها الظواهري.
*باحث في قضايا الإرهاب والإستخبار
مقالات اخرى للكاتب