العراقيون يجيدون التمييز بين الحالات والظواهر السلبية عن الايجابية ليس لأنهم سلبيون أو مشككين ولكن لأن نشأتهم قامت على أساس عدم القبول بالخطأ أينما كان ، وغالبا ما يطلقون العبارات والدلالات المهينة على كل ما هو خارج المألوف فاغلبهم ينبذونها في ثقافتهم المستمدة من مختلف المصادر سواء الأديان أو العادات أو التقاليد أو الأعراف فهم من اوجدوا تسميات ( القفاص ) و ( البوري ) و ( الكلاوجي ) ، كما إن أسلافهم قد اوجدوا تسميات ( السرسري ) و ( الهتلي ) وعشرات أو مئات العبارات الأخرى ، ولكل كلمة من هذه الكلمات تاريخ ومعاني فالبعض يتداولها بطريقة عفوية للإشارة إلى بعض الحالات المرفوضة في حين ان البعض الآخر يعرف أصولها وسبب نشأتها عن ظهر قلب ، وأنا لا أتبجح المعرفة بكامل التراث الشعبي في بلدنا العزيز ، ولكن ما لفت انتباهي هذه الأيام هو استخدام لفظة ال56 بشكل واسع من قبل فئات مختلفة من الناس في بغداد وبقية المحافظات ، ففي مرة كنت أناقش احد الحرفيين حول انجاز عمل في محل عملي ، فأشار لي أحدا على من كنت أناقشه على انه 56 ولم افهم الدالة الحقيقية لهذا الرقم في حينها مما دفعني الفضول للاستفسار من ذلك الشخص لما يعنيه الرقم 56 ، وقد حاول التملص في إعطاء التفسير المطلوب لان الحرفي من مواليد السبعينيات كما يبدو على ملامحه وليس من مواليد سنة 1956 كما إن شيئا آخرا لم أجده يرتبط بهذا الرقم الغريب من حيث مساحة التنفيذ أو العرض والطول كما انه لا يرتبط برقم قائمة انتخابية على سبيل المثال ، ولكني أصررت على أن اعرف سر هذا الرقم الذي بات يتردد كثيرا هذه الأيام ، وبطريقة سلسة أعلموني انه يطلق على من نتعامل معه ولا يمكن الوثوق به كونه محتال ، والغريب في الأمر إن الكثير لا يعرفون السر في الربط بين عبارة ال56 والإشارة إلى الاحتيال رغم إن الموضوع بسيط ، فالمادة 456 من قانون العقوبات العراقي النافذ رقم 111 لسنة 1969 قد أشارت إلى الاحتيال ونصها (1 – يعاقب بالحبس كل من توصل إلى تسلم أو نقل حيازة مال منقول مملوك للغير لنفسه أو إلى شخص آخر وذلك بإحدى الوسائل التالية:
أ – باستعمال طرق احتيالية .
ب – باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة أو تقرير أمر كاذب عن واقعة معينة متى كان من شأن ذلك خدع المجني عليه وحمله على التسليم .
2 – ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من توصل بإحدى الطرق السابقة إلى حمل آخر على تسليم أو نقل حيازة سند موجد لدين أو تصرف في مال أو إبراء أو على أي سند آخر يمكن استعماله لإثبات حقوق الملكية أو أي حق عيني آخر أو توصل بإحدى الطرق السابقة إلى حمل آخر على توقيع مثل هذا السند أو إلغائه أو إتلافه أو تعديله ) .
ومن خلال استقصاء هذا الموضوع ( 56 ) فقد وجدنا انه منتشر بشكل واسع بحيث انه يمتد إلى خارج القطاع الخاص ويستخدم في مختلف القطاعات والأكثر من ذلك انه يطلق على بعض التجار وأصحاب الرتب والشهادات والمهن والسياسيين المشكوك في مشروعية ما حصلوا عليه أو تعاملهم غير النظيف مع الناس ، لان آل 56 تنطبق على الكذابين والمخادعين والانتهازيين والوهميين والحاصلين على المزايا من دون استحقاق حقيقي ومستغلي الفرص والذين يصطادون في الماء العكر، ورغم إنها من الحالات والظواهر التي لا يفخر بها شعبنا المعروف بأخلاقه الكريمة ، ولكن ما يتم الاتفاق عليه انه نتاج رديء من الحروب والحصار التي مر بها العراق والثقافات والممارسات التي جاءت من خارج العراق منذ حرب الخليج الأولى ، والبيئة الأكثر ملائمة التي ساعدت على تفقيس بيوضهم وولادة شرورهم هي الإحداث التي مرت بالعراق بعد 2003 ، فقد أنشأت مستنقعات وأماكن قمامة تسهل تكاثرهم وتضخيم حجومهم ، فهذه البيئة جعلت من بعض الفاسدين والسراق مالكين وأغنياء ومتحكمين في المال والأرواح والأسواق ، كما إنها سمحت للبعض بارتداء الأزياء والملابس والإكسسوارات التي يعتقدون إنها تخفي الغش والتدليس والاحتيال ، وما نخشاه فعلا أن يتم استشراء أل 56 إلى أكثر لما هو موجود بحيث يتحول إلى أسلوب يتباهى به الأغبياء على كونه من صور الشجاعة والقدرة على الإفلات من العقاب ، وهذه الخشية ليست من فراغ وإنما من خلال الواقع فهناك العديد منهم يسرحون ويمرحون ويتحكمون ببعض الأمور دون حساب وعقاب ، فقد وقع في شباكهم العديد من المواطنين الذين تعاملوا معهم على أساس حسن النيات ، والعقاب القانوني ليس المعالجة الوحيدة لمثل هذه الظواهر لان العدد القليل الذين أحالهم القضاء بموجب المادة 456 ربما هم بالحدود الدنيا لمواصفات أل56 الذين يتم التحدث عنهم ، فحيتان ال56 لا يقبعون بالسجون وإنما ينتشرون في أماكن عديدة لنشر الظلم والفساد والثراء على حساب حقوق الناس ، وهم بحاجة ماسة لان يتم تصنيفهم ضمن الشواذ والمنبوذين وهي ليست مهمة الدولة لوحدها وإنما من مهام وأولويات المجتمع إن أراد الحفاظ على أبنائه من المحتالين ، لان ال56 يشكلون مرضا معديا ينقل أعراضه للآخرين عندما تغيب معايير الشرف والعدل والضمير والقيم الوضعية والسماوية ، ومما يسهل ذلك الفقر والبطالة وفشل أداء المؤسسات المعنية بالأخلاق والسلوكيات .
مقالات اخرى للكاتب