عندما قمت بالكشف عن مقابر العمال بناة الأهرام إلى الجنوب الشرقي من أبو الهول والسور المعروف بحيط الغراب، اعتبر من أهم اكتشافات القرن العشرين، لأنه يعطينا ولأول مرة معلومات مهمة عن بناة الأهرام، ويعتبر ردا قاطعا على كل المشككين في الحضارة المصرية، وهؤلاء الذين يرجعون هذه الحضارة إلى أقوام هبطوا من الفضاء أو سكان قارة الأطلانتس المفقودة.
لن أنسى ذلك اليوم من صيف عام 1992 عندما كشفت عن مقبرة رائعة، وداخل هذه المقبرة عثرت على نيشة بأحد جدرانها يخفيها قوالب من الطوب اللبِن، وعندما قمت بإزالة الحجر الأول ظهرت عيون لتمثال رائع من الحجر الجيري الملون يرجع إلى 4500 سنة لصاحب المقبرة، وبعد أن أزلت قوالب الطوب الأخرى كانت المفاجأة السارة بوجود 3 تماثيل أخرى صغيرة حول التمثال الكبير، وكلها تحمل اسم صاحب المقبرة وهو «إنتي شيدو» وتمثله في مراحل عمره المختلفة.
في اللحظة التي فتحنا هذه النيشة وسقطت أشعة الشمس للمرة الأولى على وجوه هذه التماثيل الرائعة بعد مرور 4500 سنة على إخفائها فكّرت في عظمة الحضارة المصرية القديمة وكيف استطاع المصري القديم حماية مقابره وآثاره. في ذلك الوقت كانت السياحة في مصر تمر بأزمة، وهناك ضرورة لتشجيع السياحة، واتفق معي فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق على دعوة الرئيس الأسبق حسني مبارك للحضور إلى أهرامات الجيزة للإعلان عن الكشف، أملاً في أن تساعد زيارته على عودة السياحة والخير إلى مصر.
وفي اليوم الذي حددته لفتح المقبرة، وأثناء حضوري من منزلي إلى منطقة الهرم، حدثت لي أزمة قلبية أمام مدخل مستشفى الهرم، وبعد ذلك قمنا بتحديد موعد آخر. وفي اليوم المحدد حدث زلزال عنيف ولم نعلن عن الكشف. وتصادف بعد ذلك أن تقابلت والكاتب الراحل أنيس منصور وسألني عن أخبار الاكتشافات الجديدة وأخبرته عن كشف مقابر بناة الأهرام وعن التماثيل الجديدة، وقلت له إن هذا الكلام غير قابل للنشر حتى يتم الإعلان رسميا عن الكشف، إلا أنه فاجأني ونشر كثيرا من المقالات عن كشف مقابر بناة الأهرام في الجيزة في عموده «مواقف» بجريدة «الأهرام». وبالطبع كانت مشكلة كبيرة مع وزير الثقافة. ولم تكن هذه هي آخر المصاعب أو المشكلات، إذ حدث بعدها بأيام قليلة أن سُرق أحد التماثيل المكتشفة حديثا بجبّانة العمّال بناة الأهرام. وانتهز أعداء النجاح الفرصة وهاجموني في كل مكان، فكان أن تركت عملي بأهرامات الجيزة وذهبت للتدريس في الولايات المتحدة الأميركية، وظللت هناك لمدة عام تقريبا، بعدها عدت إلى عملي واستكمال الحفر عن مقابر العمّال بناة الأهرام.
وقد ظلت تماثيل إنتي شيدو في مخزن الآثار لسنوات قبل أن يتم نقلها إلى المتحف المصري لكي تعرض هناك وتحكي قصة هؤلاء العمال والفنانين الذين عاشوا وماتوا بالقرب من الأهرامات. تلا الكشف عن تماثيل إنتي شيدو الكشف عن كثير من التماثيل لعمال وفنانين، رجال ونساء.. لم تعد الأهرامات صامتة، بل حية تتكلم وتبيح بأسرار حضارة إنسانية رائعة.
مقالات اخرى للكاتب