هذه تأملات فكرية على ضفاف نهج بلاغة إمام العارفين وبوابة خزائن اليقين وعمود خيمة المتقين.
1- الحكم
علي بن أبي طالب, تلميذ المصطفى الذي أخذ عنه علوم السماء طازجة حارة , مطبوخة على نيران التلقي والوحي والإبداع النبوي الخلاق , الذي تؤازره قدرات السماء ولقاءات جبريل بالرسول الكريم, وكان صبيا يتلقف ذلك العلم الإلهي والرسالة السماوية بقلب مؤمن , وعقل منفتح متعطش للمعرفة والعلم والإبداع.
وقد حباه الله بذكاء واضح وقدرات بدنية متميزة, جعلت منه بطلا في الحرب وبليغا في العلم والأدب والفكر.
يقول في نظرته إلى الحكم:
"إذا ملكتم فتاجروا مع الله بالصدقة"
أن يملك الإنسان تدل على معاني متعددة ومفردات واسعة. فقد يملك البشر شيئا قليلا أو كثيرا , وقد يكون ملكه حكما وقدرة على التحكم بالناس, كل هذا يعني ملكا, ويبدو أن المقصود هنا الحكم.
ترى كيف يتصدق الحاكم وهو في كرسي حكمه, كيف يتصدق بالحكم؟
يكون ذلك بعمل المعروف, فالمعروف صدقة , ونهج المعروف هو أرقى سلوك يمكن لمالك حكم أن يتخذه دستورا ودليلا لحكمه وسلوكه مع الرعية.
فهل يعمل المعروف كل من جلس على كرسي الحكم والقوة؟
لو حصل هذا لما تحقق الفساد وساد الظلم والجور والشقاء البشري.
إن الذي يعرف عليا عليه أن يكون من قادة المعروف وليس من قادة المنكر.
2- تناقض السلوك
يقول في وصفه للسلوك البشري الذي خبره وأدرك أعماق مفرداته , ووصف كوامن النفوس البشرية عن خبرة قرآنية وبشرية فائقة.
فالبشر فيه نزعة واضحة وكبيرة للتناقض مع أقواله, ويتخذها وسيلة لستر ما يريد القيام به من الرغبات التي لا يقرها العرف والتقليد الديني والاجتماعي , لكن نفسه الأمارة بالسوء تقر بها , وتتخذها منهجا وتخاتل من أجل التعبير عنها فعلا.
" لعن الله الآمرين بالمعروف الناكرين له, والناهين عن المنكر والعاملين به"
فهناك بشر يقول بالمعروف ويفعل بالمنكر, وهناك من البشر من ينهى عن المنكر قولا ويعبر عنه فعلا.
وهذا التناقض المروّع له خطورته على البشر, لأنه يشوّه الرؤية ويقتل الثقة ويشيع الشك والخوف وفقدان الأمان بين الناس.
والسلوك البشري المزدوج ليس جديدا في عالم الدنيا , وهو الذي أرهق المجتمعات وجلب الويلات وأصاب الناس بالفواجع والمآسي الخانقات.
وربما تكاثر أمثال هؤلاء في مجتمعاتنا , مما دفع إلى حالات مروعة لا تجد لها منفذا أو خلاصا من الاحتقان والدمار والبلاء.
3- القول والفعل
وبسبب هذه الازدواجية المؤلمة للسلوك البشري فأن الأقوال لا تعني شيئا , إن لم تكن متوافقة مع الأفعال , ولهذا ترى التأكيد على الفعل , لأن الفعل أقوى من الكلام والأقوال.
وكما هو معروف فأن البشر يتعلم من ملاحظة الأفعال أكثر من سماعه للأقوال.
ولكي يكون البشر بمستوى فكره وقوته المعرفية والروحية , عليه أن يرينا أعماله الطيبة الصالحة المفيدة , وليس خطبه التي لا تتفق مع أفعاله وما يريد أن يحققه في دنياه.
ووفقا لهذا فأن الدين العمل وليس القول.
الدين التعامل الطيب مع الآخرين , وليس اللحية والعمامة والتظاهر الزائف أمام البشر من أجل خداعهم وابتزازهم بإسم الدين.
"كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم"
4- المشاركة في الكرسي.
" من شارك السلطان في عز الدنيا شاركه في ذل الآخرة"
داء الكرسي الوخيم يتملك السلطان والحاشية , ومن يريد أن يغرف من الدنيا بكل ما يستطيعه من أدوات وأواني الغرف المطلق , الذي لا يعرف حدودا أو روادعا أو اعتبارا لحقوق الآخرين من البشر , الذين أصبحوا تحت رحمة الكرسي القابض على جمرة الحكم.
الكرسي المغفل تجتمع حوله جوقات بشرية كأنها الذباب , الذي يتراكم على الجيف ويتصارع من أجل الوصول إليها , وامتصاص رحيقها والتنعم بالغذاء المتعفن اللذيذ.
أو مثل الكلاب الجائعة التي لا تعرف الشبع , وتدخل في صراع حاد على فريستها التي سقطت بين براثنها , فتلهث وتنهش وتنبح وتهاجم وتقاتل حتى تجد نفسها أمام بعضها البعض بلا فريسة , فتأخذ بالإنقضاض على كل دواعي وجودها , وبعبثيتها الجاهلة الممعنة بالغفلة والساقطة في أحضان الرغبات المسعورة والنفوس المسجورة بالسوء والنوازع الدونية الخائبة.
فالعلاقة بين الحاكم والرعية علاقة خطيرة وصعبة ودقيقة جدا , وذات تأثيرات كبيرة على الآخرين. فإذا غفل الحاكم وتمادى في جهالته ووهمه , الذي تغذيه الحاشية الطامعة بالرغبات , فأنه سيتحول إلى أسير وأداة للشرور والمظالم , وينسى دوره في تحقيق العدالة ورفع الظلم وتحقيق السعادة.
وإذا جمع حوله حاشية لا ترى إلا ما يرى ولا تقر إلا بما يقر وتزيده كثيرا , وتوهمه بأنه الأعلم , وبأنه المعصوم من الأخطاء , وتضفي عليه بعض الصفات الإلهية , وتجعله كرسي من إله وبشر, فأن في ذلك يتحقق الدمار الوخيم للجميع , ولن ينجو من قبضة الويل أحد من أصحاب الكراسي والحاشية أو الرعية المساكين.
إنها معادلة خطيرة لا تحقق إلا الضياع والدمار الشامل.
ولهذا فأن المطلوب من السلطان أن يكون من حوله نصحاء صادقين , لا ينزعون إلى غايات دنيوية بقدر ما تعنيهم الغايات الإنسانية العليا , وكيف يتم تحقيق المثل والقيم الإنسانية الراقية , التي تنفع البشرية , وتحقق قدرا كبيرا من رسالة العدالة والرحمة والمحبة والسعادة للناس.
وأن يكونوا في حالة نكران ذات وتواصل مع مفردات المطلق والإدراك والدين.
إن إغفال هذه الضرورات في أقبية الحكم البشرية , هي التي تدفع إلى المآسي الكبرى وتذيق الناس المرارات.
فلو طبّقنا القليل جدا من أفكاره , لوجدتنا في أعظم عز وأحسن صورة ومحبة وسعادة ورحمة , ونجاة من المظالم والمآسي والصراعات المخيبة لآمال التأريخ والعقل والدين.
5- القرآن
القرآن الكريم كتاب سماوي فيه مطلق الأفكار والحكم , وهو سرمدي الأبعاد والاتجاهات وأبدي المحتوى والآيات, فيه أمهات الأفكار والرؤى والتصورات, وفيه من علم اليقين ودرر الأكوان والسماوات.
كتاب أنزله الله تعالي بواسطة جبريل عليه السلام على محمد (ص) على مدى ثلاثة وعشرين عاما, كانت السماء فيها في تخاطب حي وفعال مع البشرية فوق الأرض.
إنه كتاب من تأليف خالق الأكوان والإنسان , العارف بكل شيئ, والذي يقول للشيئ كن فيكون. وكان القرآن والكتب السماوية الأخرى قد توافدت إلى الخلق من خالقهم لأن الإنسان ظلوم جهول.
يظلم نفسه وغيره لجهله وقلة علمه وتوهمه بالدراية وهو في عميق بهتانه وجهله.
ولهذا كان من الحكمة أن يلجأ البشر إلى القرآن في وقت الملمات والخطوب لمعرفة الأسباب والمخارج , ولكي يتنوروا ويزدادوا علما ويكونوا في طريق الصلاح والأمان.
"إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن"
هذا القرآن فيه معرفة شمولية لنوازع النفس البشرية وخباياها , ورغباتها وكيف تحقق السلوك اللازم للوصول إلى مراداتها وغاياتها. في القرآن القواعد والأصول الأساسية التي ينطلق منها السلوك البشري فوق الأرض , وكيف تتفاقم المشكلات وتتوالد الأزمات والحروب, هذا القرآن
"يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" (سورة غافر: الآية 19)
لكن الإنسان عندما يبتعد عن القرآن ويكون دنيويا خالصا, يتحول إلى مخلوق أشر لا يعرف إلا أطماع نفس مطلوقة منفلتة, لا تدرك إلا ما ترغب ولاتفهم غيره, فتقتل الأبرياء وتسفك الدماء وتطيش في ميادين الشر والدمار, وإن تولت ظلمت, وإن تسيدت أثمت وزرعت المظالم في أرضها المحكومة بسلطان نارها الحامية.
يقول في رسالته إلى والي مصر:
"لا تكن عليهم سبعا ضاربا فالناس صنفان إما أخ في الدين أو نظير لك في الخلق"
وهنا تظهر شمولية التصنيف الواعي المطلق للبشرية, فلا فرعيات ولاجزئيات, إنها أساسيتان ثابتتان واضحتان مثل وضوح الشمس في رابعة النهار, أخ في الدين ونظيرفي الخلق, ويمكنك تقديد الصنفين الأساسيين إلى ما شئت من الأجزاء والفروع , ولكن عليك أن تتأمل الفكرة الأساسية المستوحاة من العلم القرآني والإدراك الكوني المطلق , والمبنية على وحدانية الخلق والدين وحسب.
وليتأمل كل منا الناس من حوله فسيجد أنهم إما اخوة بالدين أو نظراء بالخلق, فلماذا يجنح الأنسان إلى مقاتلة أخيه وتدمير الأخوة والوئام والمحبة؟
إنها النفس الأمارة بالسوء هي التي تملي على البشر إرادة الشيطان والرجس والبهتان.
ترى ألا يكفينا أن نتأمل هذه الآية ونستخلص منها سلوكا قرآنيا يحببنا إلى الله ويقربنا من جنات عدنه؟!
"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات 13)
يا أخي ونظيري , إنها التقوى فحسب.
د-صادق السامرائي