في منظور علم السياسة تقوم الدولة على أربعة مقومات / أركان أساسية تفقد – أية دولة - مبررات وجودها الوطني والقانوني ، ما لم يكتمل نصابها البنيوي ويتحقق تفاعلها الجدلي ، وإلاّ اعتبرت ناقصة التكوين وفاقدة الأهلية ؛ الأول وجود (أرض) واضحة المعالم جغرافيا"ومرسمة الحدود دوليا"، بحيث يمكن الاستدلال عليها طوبوغرافيا". والمقوم الثاني وجود (شعب) يعيش على تلك الأرض ، بصرف النظر عن حجمه وطبيعة مكوناته . وأما المقوم الثالث فيعتمد على وجود (سيادة) مطلقة تمارس سلطتها على كامل التراب الوطني ، بحيث لا توجد سلطة أخرى تنافسها أو تعارضها على حقها الشرعي لضمان سيران تلك السيادة . وأخيرا"يأتي المقوم الرابع وهو حصول (اعتراف) دولي بهذا الكيان المؤسسي من لدن المجتمع الدولي ، فضلا"عن الانخراط في مؤسساته الأممية والالتزام بأعرافه وقوانينه . والحال إذا ما طبقنا هذه الأركان المعيارية على نموذج الدولة العراقية لما بعد السقوط ، سنلاحظ أنها لا تتمتع إلاّ بركن واحد فقط من تلك الأركان المذكورة (الاعتراف) الدولي ، في حين أنها لا تزال تفتقر إلى بقية الأركان الأخرى التي تجعل منها دولة فعلية ، وهو الأمر الذي لا يطعن فقط في شرعيتها الوطنية والدستورية فحسب ، بل ويجعل مسألة وجودها كفكرة وسلطتها كمؤسسة أمرا"مشكوك فيه . وبما أن أي مجتمع – مهما كانت مستويات تحضره وتقدمه - لا تقوم له قائمة دون وجود دولة تضبط توازناته الداخلية وتحمي حدوده الخارجية ، وهو الأمر الذي ضرب عليه المجتمع العراقي أبلغ الأمثلة ، لجهة تفكك عراه وتقطع أواصره وتمزق نسيجه ونسخ ذاكرته ومسخ شخصيته . ولعل هناك من يرغب بالمحاججة والمناكفة حيال صحة وصواب استنتاجنا الرامي إلى تجريد الدولة العراقية الحالية من أية مقومات سياسية وشرعية ، باعتبار أن العديد من المؤشرات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والقانونية تؤكد هذه الواقعة وتدلل عليها ، وان أمر التغاظي عن وجود تلك المقومات والتعامي عن تلك العناصر يعد ضربا"من الإجحاف والتجني . الواقع إن حقيقة وجود (دولة) عراقية بالمعنى الذي قدمناه ، لا يعتمد على معطيات الواقع المعاش بمقدار ما يمتح نسغه من افتراضات المثال الصوري . بمعنى إن استمرار تعاطينا مع فكرة إن هناك دولة فعلية تفرض سلطانها وتمارس سيادتها ، نابع من واقعة اجتيافنا للفكرة أكثر من تعاملنا مع الكيان ، وتماهينا مع المثال أكثر من تعاطينا مع المؤسسة . ذلك لأن الوعي الاجتماعي المدجن استبطن سلطان الدولة وهيبة القانون ، ليس من منظور كونهما من ضرورات التفاعل الاجتماعي والتكامل الثقافي والتواصل الحضاري ، وإنما تحت وطأة مخاوف تغوّل الدولة الشمولية وتوحش السلطة الدكتاتورية . وهكذا فان ما يسمى (دولة) العراق الحالية لا تعدو أن تكون سوى امتداد مشوه للدولة السابقة ، ولكن ليس على صعيد الواقع وإنما على صعيد الفكرة ، ليس على صعيد المعاش وإنما على صعيد المثال ، ليس على صعيد الوعي وإنما على صعيد المخيال ، ليس على صعيد قوة الحق وإنما على صعيد حق القوة . وإذا ما رجعنا إلى شروطنا المعيارية السابقة وحاولنا تطبيقها على نموذج الدولة العراقية المزعومة سنلاحظ أولا"؛ إن الشرط الطبيعي (الأرض) الموحدة لم يعد قائما"، استنادا"إلى واقعة التقسيم الجغرافي الذي حول تلك الأرض إلى مجرد أسلاب يتم الاستحواذ عليها ، سواء برسم الاحتلال العسكري أو الانفصال السياسي . وسنلاحظ ثانيا"؛ إن الشرط السوسيولوجي (الشعب) تحول إلى مفارقة مخجلة بقدر ما هي مدمرة ، على خلفية تشظي المكونات إلى أصولها الأولية (أقوام واثنيات) ، وتذرر الجماعات إلى خلفياتها البدائية ( طوائف وقبائل) ، بحيث تلاشت ملامح الشخصية الوطنية واندرست فكرة الهوية العراقية . وسنلاحظ ثالثا"؛ إن الشرط السياسي (السيادة) قد استحالت إلى صيغة مضحكة بقدر ما هي مؤلمة ، وذلك على خلفية تقلص سلطة الدولة المفترضة وضياع هيبة القانون المزعوم ، ليس فقط على كامل التراب الوطني / العراقي – بعد أن احتلت عناصر داعش وأضرابها من الجماعات المسلحة الموتورة أغلب المحافظات الشمالية - بل وعلى مستوى العاصمة بغداد ومحيطها الجغرافي ، حيث المليشيات المدججة بأسلحة الموت والخراب هي من يشرع القوانين وينفذها ، عبر سلسلة من عمليات الخطف العشوائي والقتل الجماعي الاستئصال السكاني . هذا في حين تتحصن طواقم حكومتنا الرشيدة داخل أسوار المنطقة الخضراء ، حيث تتلقى الأوامر والتعليمات من شبكة واسعة من الأطراف الدولية والإقليمية ، التي تشرف على إدارة ملفات الأمن والسياسة والاقتصاد . من هنا يستمد الشرط القانوني (الاعتراف) شرعيته الدولية ، دون أن يكون لسلطة الدولة العراقية أو هيبة القانون الوطني دورا"في بلورة هذا الاعتراف ، بمعنى إن واقعة وجود تلك الدولة الشكلية لا يعتمد على مقومات ذاتية وأركان داخلية ، بقدر ما يقوم على حقيقة توافقات موضوعية ومساومات خارجية (دولية وإقليمية) ، ألزمت ضرورات المصالح الإستراتيجية ليس فقط على قبولها بصيغها البروتوكولية فحسب ، وإنما بقائها ضعيفة لا تقوى على تأكيد سيادتها وبسط سلطانها بدون دعم وإسناد خارجي من جهة ، واستمرارها مأزومة لا تقوى على مواجهة التحديات التي تهدد كيانها بدون دون غطاء دولي من جهة أخرى . ولهذا فليس من الغريب أن تتواجد المليشيات الطائفية وتنتشر الجماعات الأصولية ، إنما الغريب عدم توالد أشكالها وتناسل أنواعها في ظل مثل هكذا بيئة سياسية واجتماعية مناسبة لانتشار التطرف واستشراء العنف ، حيث لا دولة ولا قانون !! .
مقالات اخرى للكاتب