الماء فقط يحول بيننا ، وشط ام الخنازير الممتلئ دائماً ، صار صديقا ً للموحان ، و صار صديقي ايضاً ، فلولا وجوده لما جمعنا الزمن على ضفتيه .
ها نحن نكبر كل يوم ، وما عدت قادراً أن أرى ضفائر حبيبتي ، فلقد كبرت هي ايضاً ، وتحجبت .
لم يعد جلوسنا على الشاطئ بريئاً في عيون الناس ، ولم يكن والدي يقبل بذلك ابداً ، رغم انه لا يعلم بتعلقي بحياة ، او كما يسميها اهلها "حورية" لأن قوامها يشبه حوريات البحر .
لم ينخفض منسوب الماء في أم الخنازير كما في هذا الخريف ، حتى بلغ صيد الأسماك حداً لم اره في حياتي .
انها فرصتي في العبور ، لكن حياة لم تكن تقبل بذلك ، فقررت ان اضعها أمام الأمر الواقع ، وأخبرتها انني سأكون على الضفة الأخرى منتصف الليلة .
لقد بتنا نمتلك قاموساً عريضاً في لغة الإشارة ، حتى انني بت استعمل ذلك في التعامل مع الآخرين .
ومع بزوغ القمر نزلت للماء حاملاً معي اثمن ما املكه من هدايا ، خاتم قديم وجدته في الماء اثناء ما كنا نصيد السمك ، ربما كان مصنوعاً من الفضة او هكذا أتصور لأن أمي تقول ان الفضة تصبح خضراء عند تعرضها للماء .
وصلت للضفة الأخرى ، لأختبئ بين القصب والحشائش التي بدأت تنمو على جرف النهر .
انتظرت طويلاً ولربما انني قد بكرت في القدوم ، لأسمع بعدها وقع اقدام مصحوباً بصلصلة قدر الماء الذي كانت تحمله حياة لتملأه .
لقد كانت واثقة من قدومي ، فأنشدت بيت من الدارمي المعروف :
كَاعد بذاك الصوب يكسر الخاطر
يعيوني للمحبوب صيرن كَناطر
فأجبتها :
متعني نص الليل صابر وناطر
كَلبي الكَصد ملكَاج رغم المخاطر
اقتربت منها لأراها عن قرب ولأسمع صوتها الرخيم ، ولأعلن لها عن حبي ورغبتي في الزواج منها ولأقدم لها هديتي التي كنت قد وضعتها في قطعة قماش وربطتها بعضدي .
رجعت بعدها للدار وأنا أطير من الفرح، فحياة تحبني ايضاً ، ولم تعد علاقتنا نزوة مراهقة فقط او تسلية لقضاء اوقات الفراغ .
لكنني وجدت والدي يتقلب على فراشه ، ولم يتكلم قط ، لكنه نهض بعدها ليطلب من الجميع الإستعداد للسفر !
وبدأ بحزم امتعتنا ، وماهي إلا ساعات حتى انطلقنا تحت جنح الظلام ، كان والدي خيالاً ، يسير مع قطيع الأغنام ، فيما بقية العائلة والأغراض في سيارة مارسيدس قديمة كنا نسميها بـ الوزة .
تناولنا الفطور في بيت عمتنا ليلتحق بنا والدي عند الظهيرة ، وكان أول كلامه هو ان يطلب من عمتي يد ابنتها الكبرى لي .
لم أرَ نظرات ابي تلك من قبل ولم افهمها، الا عندما خطب لي بنت عمتي .
ولم تفصلني عن الإلتحاق بالجبهة سوى اسابيع ، قضيتها في مرارة لم اتذوق مثلها ، حتى صرت أرى في جبهات الموت خلاصاً لي من حياتي الجديدة ، لكنني كنت ان أرى حياة قبل أن أموت .
التحقت بالمعسكر ، وحين عدت مررت بدارنا السابقة ، ورأيت حياة وطلبت منها ان تنتظرني فأنا عائد اليها ، وحين وصلت لأهلي كان والدي قد جهز كل شيء لزواجي من سعاد ، فكان اليوم التالي هو يوم زواجي مجبراً ، بعدها بأيام التحقت بجبهات القتال ، لأكون أسيراً في واحدة من معارك شرق البصرة .
كنت انام ما يتوفر لي من النهار واسهر الليل كله ، ولقد رافقني في ذلك ثلاثة من الأسرى ايضاً ، ولم حتى صارت تلك العادة ترافقني حتى الآن ، بعد اكثر من 30 عاماً من بدايتها .
لم أكن مهتماً بما حصل او سيحصل بقدر اهتمامي بالوعد الذي قطعته لحياة وهل ستنتظرني ؟
لقد بدأت افقد اصدقائي هنا ايضاً ، فبعد سنوات وصلت لأحدهم رسالة تخبره ان زوجته قد تزوجت وتركت اطفاله عند اهله لكنه لم يصدق الخبر ، فكان حديثه الوحيد نفيه لزواجها ، لقد فقد عقله جزئياً نتيجة تلك الصدمة .
لكنني كنت اتمنى ان تأتيني رسالة تخبرني ان سعاد قد تزوجت ، أو ان حياة مازالت تنتظرك على عهدها .
أكل الأسر من عمري 12 عاماً لأخرج بعدها وأنا لا أعرف ماذا أفعل خاصة بعد أن وجدت ان زوجتي قد انجبت طفلاً كانت قد حملت به بعد زواجنا ، وهاهو يستقبل الضيوف معي ، اسمته منتظر ، وكان تلميذاً في السادس الإبتدائي ، وكانت تحتفظ بسيارة برازيلي وزعتها الحكومة للأسرى ، وشيدت بيتاً خاصاً بنا بعد أن توفي والدي ووالدتي الذين سكنوا فيما بعد في بيت مؤجر .
لكن حياة لم تفارق مخيلتي لحظة ، فقصدت ديارها في أول فرصة لي ، لكنني وجدت ملامح المنطقة قد تغيرت بالكامل ولم تعد هناك أي بيوت سكنية ، الأثر الوحيد المتبقي هناك هو تلك الشريعة التي التقينا عندها قبل أكثر من 30 سنة .