لطالما قرأنا في مناهجنا الدراسية منذ الأبتدائية ، عبارة (العراق غني جدا بموارده) ، وكنا نعلم بحقيقة ذلك ، لكن (هذا الغِنى) لم ينعكس يوما على حياتنا ، وها قد مرّت الأيام ، وأنتهى المطاف بالبلد على أنه من أفقر وأسوأ دول العالم ، ومكبلا بالديون والتعويضات ، وسُلّطَ علينا الأرهاب ، فأتى على الأخضر واليابس من الأرواح والموارد والمال ، فأفلست الدولة كنتيجة مباشرة لفسادها وفشلها ، مع غياب تام للحكمة في إدارة مواردها ، فتوقفت المعامل والمرافق الأنتاجية فيه ، وأنقرضت التنمية ، والبناء والزراعة والصناعة ، وتآكل لدينا القطاع الخاص ، وتسربل الشباب في الآفاق والمنافي ، وبين اللجوء والتهجير ، فبأمكاني استنتاج حالة الفقر المدقع ، وغياب العدالة ، والبؤس والشقاء ، بل اليأس ، وأنا جالس في منزلي ، موصدٌ بابي ، وأنا بمعزل تام عن الأعلام المفزع المرئي والمسموع لما آل اليه حال البلد ، وأنا أسمع انواعا من الأصوات الصادرة من المتكسبين الجوالين في فرعنا حيث أسكن ، تشبه الهتافات والمواويل ، لكني كنت أحول هذه الأصوات ذهنيا ، الى صور عديدة للفقر المتفشي في العراق وهي تتسلل الى أذني .
كنت أعمل كمهندس تنفيذي لأحدى الشركات الأهلية لجهة مستفيدة في الدولة ، وبسبب افلاس الدولة ، وعدم أمكانيتها من تسديد السلف التشغيلية ، توقف العمل وتم تسريحنا ، وعند مكوثي في المنزل ، كنت أصغي لهذه الأصوات التي تحمل بين طيّاتها ، نبرة وكأنها النواح والشكوى والأستغاثة والحزن ، أكثر منها للدلالة على الترويج ، مثل:
- دواشگ ، مَدّات ، زوالي ، بطانيات
- دجاج حي ، مهلوس ومنَظّف
- شامية طيبة ومملحة
- ماطورات مولدات
- غسالات ، مكيفات ، مبرّدات ، پاتريات
- پطايق نفط
- طحين ، تمّن ، دهن ، شَكَر
- لحيم حديد ..
- هذا شعر بنات (بأسلوب الموّال) !
- تصليح طباخات
- فواكه ، موز، تفاح
- سبيناغ ، سِلِگ ، بيتنجان ، طماطة
- رگي عالسّچين ، بطيخ
- ملح ، ملح
- خبز يابس
- عتيگ للبيع
- مساعدة لله !!
- بيض الطبقة بألفين !!!
- فَرّح جهالك ، ملاعيب للجَهال ..
- نعالات جلد و لاستيك !
- سِمَچ ، سِمَچ طيب ويلبُط !
- حداد سچاچين وطبارة عَمْية ! ..
- غاز ، غاز (بالهورنات ، أو بالموسيقى)
- ماستك للسگوف (للسقوف) ..
كل هذه الهتافات والشعارات طرقت سمعي في يوم واحد وأنا ماكث في المنزل ، يدفعني الفضول أحيانا لأرى ماذا يجري ، فأرى منهم الراجل ، ومنهم على عربة متهالكة ، وكأنها من بقايا خشب التوابيت المتسوس والمخلّع ، تمشي على غير هُدى وهي تُصدر صريرا ، متعثرة بين الحُفر والمطبات والمياه الآسنة ، تذكرني بحال الوطن ، تذهب الى حيث يجرها (حمار تعبان) ! ، ومنهم على صهوة (ستوتة) ، أو (كيا) ، معظمهم يستخدم مكبرات صوت تعمل بصوت مسجّل ، أحيانا يصيبني التكرار واللفظ السريع بالدوار ! ، لكني لا أكتمكم سرا أني أشعر بالرثاء لهم لكونهم شبابا بعمر الورود ، ومنهم خريجو كلّيات ، مثل خريج الأدارة والأقتصاد ، (فاضل) أبو المخضّر ، الذي يختصر علينا الذهاب للسوق الرئيسي ، وبنفس الوقت أحترمهم واشعر بالأعجاب ، لأنهم أختاروا الطريق الصعب وهو الكسب الحلال في بلد ضاع فيه التكسب بالحلال ! ،
مقالات اخرى للكاتب