في أول عهدي بالمدرسة الإبتدائية , كنت لا أرى والدي إلا أيام الجُمع أو بين جمعتين, حيث كان يعمل في محافظة أخرى. وفي تلك المرحلة العمرية تتمحور الحياة حول الأم والأب, ويكون الأب قوة شاغلة ومؤثرة في الحياة.
وذات جمعة كنت فيها أرافقه كظله , جلس يفتش في صندوق أوراقه القديمة, وأنا أرقبه , وإذا به يستخرج كتابا صغيرا مصفرا, تصفحه ورماه إلي وهو يهتف بوجهي ويهدر:
"كن إبن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب
إنّ الفتى من قال ها أنا ذا ليس الفتى من قال كان أبي"
وراح يشرح لي معنى البيت ويختتم بزجرة قوية: "فكن عصاميا ولا تكن عظاميا , إقرأ ما كنت أقرأه في الإبتدائية".
تزعزعت أعماقي لِما سمعت , وتأثرت بالقوة الانفعالية التي تحدث بها أبي معي.
فقد إهتز كياني لتلك الصرخة التي لازالت مدوية في دنياي.
كان الكتاب مختارات من شعر الإمام علي بن أبي طالب, ومن الكتب القديمة , وهو أول كتاب شعر أمسكه بيدي , وما تقدم أول بيتين للشعر أحفظهما . أخذت الكتاب واستيقظت من سباتي ونومي النفسي والفكري واعتمادي على والدي, ورحت أقرأ الأشعار وأرددها مرارا وتكرارا, فحفظت أشعار ذلك الكتاب وتمثلتها بنفسي وروحي وأدركها عقلي , فأثرت على سلوكي تأثيرا كبيرا , ولا زالت تنير طريق حياتي وترسم خارطة وجودي.
إبتعدت عن أبي , وجالست نفسي أهذبها وأرشدها , وفقا لمنهج الأبيات الشعرية , وأربيها على ما أحفظه من أشعاره وأقواله. فوجدتني مغمورا بحب العربية وآدابها, وأخذتني تلك الأشعار إلى كتابَيْ نهج البلاغة وشرح إبن عقيل , فانغمست بهما , ولم يفارقاني طيلة دراستي في المتوسطة والإعدادية والكلية الطبية وما بعدها , ولا يزالان من أصحابي.
وكانت الأشعار والأقوال التي حفظتها صغيرا تتردد في نفسي دائما وأذكر منها:
يزين الفتى بالناس صحة عقله
وكذلك
فلا تصحب أخ الجهل وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى حليما حين آخاه
ومنها أيضا
إصبر على الدهر لاتغضب على أحد فلا ترى غير ما في اللوح محفوظ
ولا تقيمن بدار لا انتفاع بها فالأرض واسعة والرزق مبسوط
لا تودع السر إلا عند ذي كرم والسر عند كرام الناس مكتوم
يا ليت لي رقبة كرقبة البعير
إن كان منطق ناطق من فضة فالصمت در زانه ياقوت
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه
وذي سفه يواجهني بجهل وأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاد بالإحراق طيبا
سليم العرض من حذر الجوابا ومن دارى الرجال فقد أصابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ومن يهن الرجال فلن يُهابا
لا تخضعن لمخلوق على طمع...
إن الذي ترجوه وتأمله من البرية مسكين إبن مسكين
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
صن النفس واحملها على ما يزينها تعش سالما والقول فيك جميل
فقم بعلم ولا تطلب به بدلا فالناس موتى وأهل العلم أحياء
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
علل النفس بالقنوع وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها
إصبر قليلا فبعد العسر تيسير وكل أمر له وقت وتدبير
أما معاني الأبيات الأخرى وأقواله المتفرقة , فأنها كانت مدرسة أخلاقية ذات قيمة وتأثير كبير على حياتي.
أدركت أن العلم فضيلة وأن الجهل خطيئة , فالعلم يبني بيوتا بلا عمد والجهل يهدم بيوتا ذات عمد. فالعلم واجب شرعي وهدف مصيري للنفس والحياة , فاعلم وتعلم ولا تقل أني أعلم لأنك ستجهل.
وكلما ارتكبت حماقة أدرك أن معرفة الشر لا للشر ولكن لتوقيه.
فهل نحن نتربى بخلق الإمام علي؟
لو أننا كذلك لتحول الوطن إلى جنة الله في أرضه.
إن جهلنا بالقيم والمبادئ العظيمة والأفكار النبيلة , التي دعى اليها وجاهد في سبيلها وتواصل , رغم المحن والظروف الصعبة , هو الذي أودى بنا إلى سوء السبيل.
نحن نجهلها تماما, ونتعامل بما يسيئ إليها , وبما يحزنه ويغضبه , فترانا نتكلم بما لا يصح الكلام فيه. ونتمادى في جهلنا ونعتبر أن الجهل علم, فنرفض المعرفة ونكره العلم , ونخضع كالعبيد لنفوسنا الأمارة بالسوء , تلك التي حاربها في أشعاره وأقواله وسيفه.
ونقول ولا نتمثل القول ونصدقه بفعل, بل نجعل القول تبريرا للكسل, أو نأتي بشيء يناقضه. نكره خزائن الحكمة والفكر والمعرفة ولا نريدها , بل نسخّرها لتبرير العمل بغيرها!
يا لنا من بائسين , وبالخطايا منهكين , ولفكرنا وتراثنا ناكرين , ياويلنا..
أساطين الفكر والحضارة فينا , ونحن في غينا عابثين , ولا نعرف إلا أن نبكي وننوح ,
ونردد مالا نفقه, ونتمادى في جهلنا الوخيم لفكر أجدادنا وتأريخ وجودنا, فنعمه في دروب الوجود كالمقهورين الضائعين الحائرين.
أو كالجمال التي ينهكها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول.
ويبدو أن بلسم السلوك يتحقق بتمثل فكر الإمام علي , والتمعن بأقواله وأشعاره , وأن نربي نفوسنا ونهذب سلوكنا , وفقا لما يراه العارف الثاقب الساطع المنير, أ فلا تربى منذ صغره على يد أستاذ البشرية , الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه , وفقهه بعلوم الفرقان.
لو تأدبنا بشيئ من أدبه , وتهذبنا ببعض مما يدعو إليه , لكنا على أحسن حال إنساني.
لكننا لا ندرك , وننغمس في جهل الجاهلين وعبث العابثين , ونحسب الضلالة علما وصدقا , وفي هذا تكمن مآسينا , لأننا ننكر أجدادنا فعلا وننتمي إليهم قولا , وبالعاطفة فقط , دون عقل مدرك لمعاني وجودهم في قلب التأريخ.
فهل نعرف عليا بسلوكنا وأخلاقنا؟!
فالمعرفة عمل , مثلما الدين العمل!!
مقالات اخرى للكاتب