كنت استمع يوماً لحديث كهلين من فلاحي بلادنا مع حفيد من عمري ينتسب لأحدهما، كانوا يتحدثون عن الزراعة وعن اراضيهم المنتجة بغزارة و بشكل لا يصدق في الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات ، وكانوا يستذكرون امجادهم مع الأرض حين كانوا يعتمدون على قواهم الذاتية واصرارهم على الانتاج ، عن " الحشر" و"الفزعة" ، وعن ذكريات الأرض والطيور والنباتات التي انقرضت ، عن " الحنكَريص و الكَـوكَـ الله " وعن عبق العنبر ، وعن " دجاج الماء والخضيري والسمنان والخطاف " .
كان الحفيد يتهم الأرض بالسبخ وبالملوحة والتصحر ، يتهم السهل الرسوبي الخصيب بالعقم ، ويسوق تلك الأسباب ليخلص لنتيجة تريحه نفسياً وتخلصه من فشله المطبق ، لذلك فهو لا يستطيع ان يحيي تلك الأراضي التي آلت اليه ولا يستطيع أن يزرعها كما كانوا يفعلون ، لكن حكمة ذلك الشيخ الثمانيني الذي لا اعرف اسمه بالضبط بقيت ترن في اذني منذ سنوات حين قال لحفيده موبخاً وبلهجته الجنوبية المحببة " لا بويه الكَـاع ما صبخت ، بس الكَـلوب هيه الصبخت " .
نعم ، لقد لوث السبخ حياتنا واخلاقنا كأفراد وكجماعات ، وزحف ليأكل كل شيء نقي وجميل ، خاصمتنا الطيور الجميلة والملونة وغيرت طريق هجرتها لبلدان أخرى ، وتحولت النباتات والزهور الطبيعية الفواحة برائحة الأرض وماء الدهلة الى اشواك تحاكي واقع البلاد العنفي ، وقضمت فكوك الكارب الذي غزى انهارنا طراوة البني والزبيدي والكَـطان ، ولتطارد صبور شط العرب بعيداً نحو الخليج المحمل برائحة البترول، وانتحر البرحي والخضراوي والتبرزل واست عمران تحت وقع الحروب والقنابل ، وتحت مخالب "الشفلات" التي هاجمت فلذات نخلاتنا، واعدمت فسائلها الصغار حين قررت ان تحدد انجاب النخيل ، فأنقطع النسل ، وصارت تميرات الإفطار على مائدة رمضان معلبة ومصدرة من الإمارات التي لم تكن سوى ارضاً قاحلة .
سبخ يأكل القلوب والعقول ويسري كالسرطان ليأكل كل شيء جميل، وبلاد تذوي وتتحول لقطعة سبخ كبيرة يكاد الماء العذب أن يكون الشيء الغريب فيها .