عندما اطلقت تونس شرارة الانتفاضات في البلدان العربية، شعر معظم العرب بالزهو والفخر ايماناً منهم، ان الشعوب العربية بدأت تنهض من كبوتها التي ظلت تلازمها عشرات السنين، الا ان الاحداث اللاحقة في البلدان التي انطلقت فيها الثورات، ادخلت اليأس مرة اخرى الى نفوس الناس؛ بسبب تصاعد دور الاسلام السياسي بكل ما يحمله من رؤى تتقاطع مع متطلبات العصر الراهن.
لقد نعى كثير من اصحاب الرأي، الربيع العربي، وقال بعضهم انه تحول الى خريف!، لاسيما بعد تصاعد تيار الاخوان المسلمين في مصر، واتخاذه سياسات وقرارات بالضد من مطامح الشعب المصري وثورته، وكذلك اتخاذ الأوضاع في ليبيا المنحى ذاته، بسيادة التيار الاسلامي المتطرف، وخروجه عن المبادئ التي اطلقت انتفاضة الشعب الليبي ونزوعه الى التحرر، اضافة الى احداث سوريا وتوسع التيارات الاسلامية.
غير ان تدخل الجيش المصري وتحرك غالبية المصريين، بعد ادراكهم مخاطر ذلك التوجه، انقذ سفينتهم من الغرق؛ واعاد الأمل بمغزى انتفاضات الشعوب وثوراتها.
وقد عملت التطورات في تونس، والتصرف المتحضر للشعب التونسي وقواه السياسية، على تكريس هذا الأمل والتغلب على المخاوف التي ارتبطت بتصاعد التيارات الاسلامية المتطرفة؛ ولقد حاولت تلك التيارات بالفعل حرف الانتفاضة التونسية منذ وقت مبكر، وسعت الى تكفير الآخرين، ونفذت عمليات اغتيال بحق نشطاء يختلفون معها في التفكير، لكن الشعب التونسي وعى المخاطر منذ وقت مبكر ايضاً، وخرج في تظاهرات ادانت اعمال المتطرفين، حتى ان اغلبية التونسيين حولوا بوصلة تصويتهم من الاسلاميين الى العلمانيين، وتوج ذلك بتنافس شخصين غير دينيين على منصب الرئاسة، فاز فيها، الباجي قائد السبسي.
وبرأيي ان انتخابات تونس الرئاسية الأخيرة بعد عمليتين انتخابيتين نيابيتين ناجحتين، عتقت الشعب التونسي من مخاطر التطرف والانجرار وراء تياراته، مثلما حصل في بلدان اخرى ومنها ليبيا وسوريا والعراق وحتى اليمن؛ وذلك بالتأكيد يضيف عاملاً آخر لقوة التجربة التونسية، ويمنع عن الشارع التأثر بأعمال العنف الواسعة مثلما حصل ويحصل في البلدان المذكورة، وغيرها.
لقد اصبحت المراهنة الآن بعد الانتخابات الرئاسية التونسية، التي سيبقى الرئيس فيها في منصبه لخمس سنوات، على الوضع الاقتصادي الذي يجب ان يتحسن بما يخدم الشعب وبخاصة الشباب الذين كانوا الرافد الاساسي لثورة الحرية التونسية، اذ كانت معاناة الشباب من البطالة، احد العوامل الرئيسة التي اشعلتها، مثلما اشعلت الثورة في البلدان الاخرى.
ويشير المراقبون والمحللون الاقتصاديون، الى ان الكرة الآن اصبحت في خانة المجتمع الدولي، لاسيما الاتحاد الاوروبي الذي اعلن مباركته لنتائج الانتخابات؛ بدعم تونس ورفد اقتصادها، لكي تتمكن من النأي عن الاخفاقات المتوقعة، ولجم التيارات المتطرفة عن الظهور استغلالاً لحالة البؤس الاقتصادي والفقر لدى الشباب فيما لو تواصلت.
لقد قدمت تونس درساً ثميناً لشعوب المنطقة بتصرفها الحضاري المطلوب، ارتباطاً بوعي شعبها ومعرفته بما يضره وما ينفعه، وتصرفه على وفق تلك المعرفة التي جنبته وستجنبه مخاطر الانكفاء والتراجع.
مقالات اخرى للكاتب