البارحة وقبل غروب الشمس بقليل , وأنا أخطو في حديقة الدار , وإذا بأفعى سوداء اللون وبطول مثر أو يزيد , مستلقية على الحائط المرصوف تحت أشجار الورد الفواحة بعطرها , وكانت تحرك رأسها وتطلق لسانها بنشوة , وهي مسترخية منبسطة ومتفاعلة مع جمال المنظر , وحسبتها تشكرني على النعمة التي هي فيها , أو على هذه المتعة اللذيذة التي تتنعم بها.
مضيت أتأملها , وكدت أن أقترب منها وأربت على بدنها , كنت هادئا ومتأملا المنظر , وأفكر بما تفكر به في هذه اللحظات الوادعة , حيث الأطيار تغرد ألحانها , والأنسام تترنم بنفحاتها المتهادية الرائعة الإحساس.
فكانت الحياة في إحتفالية الإعلان عن نفسها وتعريها أمام أنظار المدركين.
وفي هذه الأثناء , ناداني صوت إنسان , فأجبته أن يحضر إلى المكان , ويرى ما أعاين وأتأمل , وحالما حضر الإنسان , وإذا به يطلق صيحة فزع وخوف ويتصرف برعب لا مثيل له , فاستدعى الجيران , وحاول الإتصال بالشرطة , وهو يصرخ : إنها الثعبان , إنها الثعبان , أية ثعبان هذه لم أرَ مثلها , إنها كبيرة , إنها سوداء , إنها خطرة , إنها شريرة , ستهاجمك , ستقتلك...وووو....!
واجتمع الجيران , وأنا لا زلت أتأمل الثعبان التي أصابها الفزع والقلق وأخذت أوصالها ترتعش , وناولني ذلك الإنسان قضيبا طويلا لقتلها!
فأخذت القضيب , وقلت لنفسي : كيف أقتل هذا الثعبان الأليف اللطيف المتمتع بجمال ولذة الحياة؟ وتعالت الأصوات التي تصفني بالضعف والجبن وما إلى ذلك لأني لا أقتل الثعبان!
ومددت القضيب والتفت حوله بوداعة عجيبة , وكأنها حيوان أليف يداعب بشرا , فنقلتها إلى الأرض الخضراء , وأمسكت رأسها تحت ضغط القضيب , وهي ترتعش خائفة ومندهشة من فعلتي , وكل الذين حولي ينادون بقتلها!
وتساءلت لماذا يريدون قتلها؟
لم تقترف ذنبا , إلا لأنها ثعبان , أو حية , أو أفعى , تتمتع بالحياة الجميلة!
وبين أن أقتلها , أو لا أقتلها , تحايلت على مَن حولي من بني الإنسان , وأرشد ت الثعبان إلى طريق الخلاص , وكأنها إستسلمت لإرادتي , وتحركت بالإتجاه الذي أريدها أن تتحرك فيه , فانطلقت إلى غايتها مذعورة أو شاكرة , لكن حركتها السريعة المستقيمة , كانت تشير إلى الذعر والشعور بالغدر من الإنسان.
وتعللت بأني لم أتمكن منها , لكنني في حقيقة الأمر , أطلقتها لأنها كانت تحت قبضة القضيب القاتلة المسلطة على رأسها , فأرخيته , وحررت رأسها الجميل من تحته فذهبت تلعن الإنسان.
ترى لماذا أراد الإنسان قتل الثعبان التي كانت تتمتع بالحياة , وتتلذذ بمنظر الوجود وسحر الغروب؟
الجميع أراد قتلها لأنها ثعبان؟
فكلمة ثعبان تثير الخوف والرعب في أعماقنا , وتلهب المشاعر المتصلة بذلك , فهي تعني الموت , ومقرونة به.
فما أن نرى الثعبان حتى يرعبنا الموت , ستلدغنا وتقتلنا , وفيها نهايتنا.
الثعبان أوجدت آليات سلوكية ونفسية في أعماقنا , ومنذ الأزل , فتوارثناها وأصبحت كامنة فينا , ولا تحتاج إلى تعلم أو تثقيف.
إنه الثعبان وحسب!
وفي واقعنا البشري , كم كلمة تشبه كلمة "الثعبان" , تنطلق بسببها ذات المشاعر التي تطلقها الثعبان وتدفعنا إلى قتلها؟!
لنتساءل , كم من تلك الكلمات؟
وكم منها نستخدم في كتاباتنا الثعبانية؟
فواقعنا يعج بالكلمات الثعبانية , وهناك العديد من الأقلام التي تنتج هذه الكلمات المعززة بالمشاعر والعواطف الثعبانية , فما أن تبرز تلك الكلمة وتقرن بإنسان وفئة وحزب ونظام وغير ذلك , حتى يتحول إلى ثعبان لابد من قتله.
وفي مجتمعات الخراب والدمار , تراكمت الكلمات الثعبانية والمشاعر والعواطف المقرونة بها , حتى صار أبناؤها ثعابين بهيأة بشر!
فهل سنقتل الثعبان الذي فينا , أم نحسب كل آخر ثعبان؟!!
مقالات اخرى للكاتب