الفقير فوق البعير وعضّهُ الكلب .. مثلٌ شائعٌ يُضرب على النحس الذي يلازم حظ الفقير ، غير ان هناك وقائع تثبت عكس ذلك ، وثمة فقراء يصل الرزق الى باب دارهم كل يوم ، فالمرأة الثكلى في مدينة الكوفة لم تشعر بضنك العيش الا بعد اختفاء من كان يتفقدها ويعينها بالقوت كل ليلة ، ولم تعرف ان ذلك الرجل الكريم لم يكن الاّ الإمام علي “ع″ الذي إنقطع عن زيارتها لأنه إستشهد بسيف لئيم ، والمجنون ” علي طماطه ” الذي كان يشحذ الدراهم من جلاّس المقاهي وعابري السبيل في شارع العباس والزائرين للمرقدين المقدسين ، إكتشف الناس بعد موته ثروة مغرية كان يمتلكها ، منزلان وعثروا على ملايين الدنانير تحت فراشه ، ليس غريباً ان يكون الشحاذ ثرياً بالخفاء ، فهكذا قصص أصبحت مألوفة ، كما أن التسوّل أصبح مهنة رابحة ، لها خبراء يخططون بإحترافية ومكر ودهاء عن سُبل ناجعة لكسب المال من عامة الناس وفئة الأثرياء والميسورين ، لكني مازلت اتذكر واقعة جرت في حياتي ايام الحصار وفي سنوات تشردي بالعاصمة بغداد ، حين أرغمني الإفلاس والجوع لشحذ ربع دينار من أمرأة متسولة كانت تجلس في نفق ساحة التحرير ، وحين رزقني الله بنقود وعدت لإسترجع لها ما بذمتي ، لم أعثر عليها ، وظل ذلك الربع دينار برقبتي حتى الساعة ، قبل أيام إتصل بي أحد المحسنين وطلب مني التبرع لأمرأة عجوز تعيش في مدينة الكحلاء ، فإعتذرت بلياقة وأخبرته لو كان عندي ما يفيض من أموال لأرسلتها الى عائلتي لأن الأقربين أولى بالمعروف ، ولم أشعر بوخز الضمير لأني تقاعست عن مساعدة تلك المرأة العجوز ، ثم قرأت مقالاً لأحد الزملاء بجريدة محلية يتحدث بسطوره عن تلك المرأة الكادحة والتي تجلس قرب جسر الكحلاء تبيع من آنية صدئة بضاعتها البسيطة على العابرين ، وأن ولدها يخوض غمار المعارك في الفلوجة ، لقد تحدّث عن المرأة المعدمة وكأنها الفقيرة الوحيدة بالعراق ، ياإلهي حتى الفقر لا يخلو من الوساطة ؟! للحد الذي طلب ذلك الزميل من إبنها العودة لأمه وترك المعارك لسواه ، وخاطبه : أمك أولا ًوطز بالوطن والفلوجة ، وبرغم وقاحة جملته وقسوتها لكني في خلدي تمنيت عودة ابنها والبقاء بجوار والدته المسحوقة ، وبعد مرور يوما واحدا فقط نشر زميلنا مقالاً بغبطة ومسرّة كبيرة وأعلن من خلاله ان فناناً مشهوراً تبرع لتلك المرأة المسكينة براتب شهري مدى الحياة وشقة لإيوائها بالعاصمة بغداد ، إتصلت بذلك المحسن الذي يقيم في مدينة بيرث الأسترالية ، وسألته كم جمعوا لهذه المرأة ، أخبرني إنهم أرسلوا 700 دولارا وستلحقها دفعة ثانية بعد أيام كما أن هناك بعض المتبرعين إشتروا ثلاجة كهربائة لها ، فإقترحت عليه ان تكون الدفعة الثانية لفقير سواها وأخبرته بما جاد به الفنان الكريم لتلك المرأة ، لكني شعرت بتأنيب الضمير فلقد أغلقت الرزق بوجه المرأة الكادحة ، غير ان الحقيقة ليست كما نظن ، إذ طلبتُ من زميلة طيبة تشرف على برنامج إنساني بفضائية معروفة ان تمد يد العون لأمرأة كفيفة تعيش بالمقابر ، ومن المؤسف لم أتلق إستجابة تسعف تلك المرأة الضريرة في حينها ، وبنظرة عادلة لهاتين المرأتين أعتقد ان المرأة التي تقطعت بها السبل وتعيش بمقبرة تستحق الإعانة قبل تلك المرأة الكادحة في الكحلاء ، والتي يمكن ان معونات إضافية وصلت الى حجرها من جهات أخرى ، ومن طبع الفقير ان يكتم الرزق الذي يصل إليه ولا يعلن عنه ، رب ثمة قارىء سيوّبخني قائلا : حتى الفقير لم ينجو من حسدكم ، وأقول بصراحة ان الحظ وقف مع إمرأة الكحلاء وعبّس وأغلق الباب أمام المرأة الكفيفة في مقبرة وادي السلام ، وهذا يعني ان الفقر حظوظ أيضا ، لقد قادني تباين الحظ بين المرأتين ، الى ضرورة إيجاد جهة مختصة بإعانة الفقراء ، يشهد لها بالنزاهة ومخافة الله حتى توّزع هبات الميسورين على جميع الفقراء بمساواة وعدالة ، فليس من الإنصاف ان فقيراً يقف معه الحظ وتتحول حياته الى رخاء خلال أيام بينما هناك فقير آخر يجافيه الحظ ويبقى طوال عمره يعيش بوضع مزر ويكاد لا يجد لقمة تسد جوع بطنه ، اجل حتى الفقر حظوظ ، ولكن يبقى أشد الناس فقراً ذلك الذي أجبرته الظروف على التسوّل من شحاذة تجلس في نفق ساحة التحرير أيام حصار إقتصادي لئيم حتى ينقذ نفسه من جوع مرير !؟
مقالات اخرى للكاتب