تشكل الأهوار في جنوب العراق بيئة فريدة من نوعها، وذات أهمية بيئية وثقافية واقتصادية كبيرة حيث يعود تاريخ نشؤها إلى الآلاف من السنين قبل الميلاد . هناك العديد من النظريات التي تتحدث عن تاريخ و نشأة اهوار جنوب العراق حيث قام الكثير من المؤرخين و الجغرافيين بوضع فرضيات و إجراء دراسات جيولوجية حول هذا الموضوع بغرض التوصل إلى أدلة أثرية تربط الاهوار بحضارات ما قبل التاريخ و خاصة الحضارة السومرية . حسب ما يذكر المؤرخ و مهندس الري أحمد سوسة ، إنه في عهد الملك السومري نور أداد ، الذي حكم ما بين 1865 و 1850 قبل الميلاد ، حدث طوفان كبير لم يسبق له أن حدث من قبل و قد أدى إلى غمر كامل للجزء الجنوبي من أرض سومر و تسبب في تغيير مجرى نهري دجلة و الفرات ؛ حيث تم تحويل نهر دجلة إلى قناة بابل ، أما نهر الفرات فقد تم تحويله من مدينة العمارة بإتجاه نهر الغراف غرباً . و هذا بدوره قد أدى إلى النهرين أن يلتقيا عند مدينة أور الأثرية بعد ذلك تم تدفق مياه النهرين نحو خور الزبير .
تعتبر اهوار العراق من أكبر و أوسع مناطق الاهوار في العالم حيث تقد مساحتها بما يقارب 20 ألف كيلو متر مربع و يعد هور الحمار في محافظة ذي قار من أكبرها حث يمتد من حدود مدينة الناصرية شمالاً حتى ملتقى نهري دجلة و الفرات في القرنة جنوباً . و يبلغ طول هور الحمار حوالي 50 كم و عرضه ما يقرب من 20 كم . و هناك إحصائية تشير إلى إن مساحة الاهوار تصل إلى 17 ألف كيلو متر مربع ، بينما تقدر المساحات المغمورة بالمياه بحوالي 11500 كيلو متر مربع . وقد أدت الصعوبات في حساب مساحة الاهوار إلى اختلافات كبيرة في التقديرات ويرجع ذلك إلى الاختلاف في كمية المياه التي تصب في الاهوار التي تتأثر بشكل مباشر بنسبة الأمطار و الفيضانات و مواسم الجفاف . وقد قامت دراسات عديدة بتقدير مساحة الأهوار في محافظات البصرة وميسان وذي قار قبل عمليات التجفيف لتكون حوالي 8780 كم مربع.
ويرتبط النسيج الاجتماعي لعرب الأهوار بشكل وثيق مع بيئة الاهوار و تأثيرها المباشر على تشكيل الجوانب التاريخية و الثقافية و الإقتصادية لهولاء الناس الأمر الذي ساهم في تشكيل ثقافة مميزة جداً . و كما ذكرنا آنفاً فأن لسكان الاهوار جذور ثقافية و تاريخية تمتد إلى ما يقرب الخمسة آلاف سنة قبل الميلاد و قد ظلت بعض جوانب طريقتهم في الحياة دون أن يطرأ عليها تغيير طوال هذا الوقت . و خير دليل على ذلك هو الكلمات أو العبارات التي ما زال يستعملها اهلنا في الجنوب أو في كل محافظات العراق و التي يعتقد المورخون بأنها جائت من السومريين سكان الاهوار الاصليين . مثلاً : كلمة (ماكو ) التي تعني ( لا يوجد ) ما زال يتم تداولها في كل انحاء العراق ؛ و كلمة (جا) التي تعني (كيف ) يتم تداولها كثيراً بين أهل الجنوب و هي مرادفة لكلمة (لعد ) عند البغداديين ؛ و كلمة (كش) و هي فعل أمر بمعنى ابتعد أو اذهب بعيداً و يتم تداولها خاصة بين النساء عندما يقلن (كش برد حيلك ) ؛ و كلمة (حريشي ) و تعني سكون أو موت كما يقولون في أللهجة العامية (يطبه حريشي ) .
يعتمد سكان الاهوار في معيشهم بالدرجة الأولى على تربية الحيوانات و خاصة الجاموس و كذلك على الزراعة و صيد الأسماك و الطيور . و تتنوع مصادر المعيشة و تختلف باختلاف المناطق التي يسكنونها ؛ مثلاً ، السكان الذين يسكنون في القرى و الارياف يمارسون مهنة الزراعة بالاضافة إلى صيد الطيور و الاسماك و تربية الماشية و صناعة القوارب . أما الناس الذين يسكنون في عمق الهور و يطلق عليهم عادة (المعدان ) فيقتصر مورد معيشتهم على الصيد و تربية الجاموس و على صناعة (البواري ) أي الحصر المصنوعة من القصب . و مع مرور الوقت، ساعدت هذه الأنشطة الإقتصادية سكان الاهوار في الإعتماد على انفسهم مادياً وساهمت في بناء اقتصاد العراق .
قبل عمليات تجفيف الاهوار التي قام بها نظام الطاغية صدام حسين ، كانت الاهوار تتمتع بغطاء نباتي طبيعي واسع النطاق حيث نبات القصب الممتد على طول الاهوار و كذلك نبات البردي و الجولان و الزنابق (الكعيبة ) و غيرها من النباتات المائية . أما أهم ما كان يميز الاهوار هو الطيور التي تأتيها في فصل الشتاء مهاجرة إليها من مختلف بقاع العالم تبحث عن الدفء و الغذاء ، و كذلك أسماكها المحلية المتنوعة مثل القطان و الشبوط و البني و الزوري و الحمري و الصبور و الشانق و غيرها . لقد كانت الاهوار معقلاً من معاقل الثورات و حصناً منيعاً للثوار على مر العصور و الأزمان ، لقد كانت اماً حنوناً لكل من رفع راية الرفض و الثورة بوجه الطغاة . لم تبخل هذه الأم الحنون يوماً ما عن إحتضان و ضم كل من آوى و لجأ إليها من ظلم الظالمين و كيد السلاطين . كانت هناك ثورات و انتفاضات ضد الأمويين و العباسين و كانت الاهوار هي المنطلق و كانت هي المأوى . و عندما قام الانكليز بغزو العراق في أوائل القرن العشرين ، ساهمت الاهوار بشكل فعال في دحر هذا الغزو الغاشم حيث قام أجدادنا الثوار بإستخدام اسلحتهم البسيطة في قتال الغزاة مستعينين بطبيعة الاهوار التي وفرت لهم مكامن و ملاجيء قاتلوا منها المعتدين . و بعد ذلك بعقود من السنوات أي في اواخر القرن العشرين ، كانت الاهوار مسرحاً للعمل الثوري ضد النظام الصدامي و خاصة إثناء العقد الاخير من القرن الماضي . و هذا بدوره أدى إلى قيام الطاغية صدام بإرتكاب أكبر جريمة في التاريخ ألا و هي عمليات تجفيف الاهوار و قتل كل عناصر الحياة فيها . ففي عام 1990 قام النظام بحملات متعددة لتجفيف مياه الاهوار و تحويلها من خلال بناء السدود و القنوات مما أدى إلى حدوث كارثة بيئية لم يسبق لها مثيل . انها جريمة تاريخية بحق الانسان و الحيوان و النبات و البيئة و الحضارة و كل شيء . لقد أدى هذا التجفيف إلى قتل الحياة في الاهوار و تدمير بيئتها الجغرافية حيث نتج عن ذلك إنقراض عدد من النباتات و الحيوانات الفريدة و أصبح بعضها مهدد بالانقراض أيضاً . أما الثروة الزراعية فقد نالت هي الاخرى القسط الأكبر من الدمار و الضرر حيث إن جفاف الانهار و ندرة المياه ساهم بشكل كبير في أن يترك الفلاحون الزراعة و التفرغ إلى مهن أو أعمال أخرى .
بعد سقوط النظام السابق في نيسان عام 2003 ، كانت هناك محاولات عديدة من قبل بعض الهيئات الدولية و كذلك الحكومة الحالية لاستعادة الأهوار واحياء مواردها الطبيعية و حتى ألان عاد ما لا يزيد عن 30٪ من الحياة النباتية و الحيوانية إلى بعض مناطق الاهوار و هذا بحد ذاته ليس كافياً لإعادة الاهوار إلى ما كانت عليه ، حيث مازالت معظم الإنهار و البحيرات و المستنقعات المائية تعاني من الجفاف و الركود و الانقراض . في ظل هذا الدمار الهائل الذي لحق بالأهوار ، يتطلب من الحكومة العراقية الحالية وضع خطة عمل طويلة الامد مبنية على أساس علمي لغرض استعادة و إحياء الأهوار و هذا لا يمكن تحقيقه إلا بتكاتف كل الجهود بما في ذلك الحكومات المحلية .
مقالات اخرى للكاتب