الهذيان إنحراف في الرؤية والتصور والإدراك , وينجم عن تأثيرات سُميّة على الدماغ , كالخمر والمخدرات والأدوية والأمراض , وإرتفاع درجة حرارة الجسم.
وعندما يهذي البشر يرى أشياءَ غير موجودة , أو يراها بصورة أخرى , أو على غير هيأتها , فيحسب الرسم على الحائط وكأنه آفة , أو مخلوقا يتحرك نحوه .
وتتطور الهذيانات الحسية والإدراكية لدرجة كبيرة ومرعبة , والكثيرون منا على معرفة بهذيان المخمورين , عندما ينقطعون عن تناول الخمر لبضعة أيام.
وقبل أسابيع إلتقيت بأحد الرسامين الذين أعرفهم منذ عقود , فوجدته في حالة هذيان واضح , لعدم قدرته الحصول على الخمر لثلاثة أيام متواصلة.
وهذيان الأقاليم , يبدو أنه ناجم عن حالة سكر أصحابه بالأفكار السامة التي أثرت على مداركهم , وشوهت قدرات بصرهم وفهمهم للأشياء من حولهم , فما عادوا يرون الوطن , وإنما صار يُهيّأ لهم بأنه عبارة عن آفات مرعبة متصارعة , وما عليهم إلا أن يستنجدوا بآفة على أخرى , ويعلنون بأنهم أحد هذه الأوافي المخمورة بأفكارٍ مسعورة , أو محقونة بصديد الأضاليل والأحابيل والغايات الكامنة في قلوب الأباليس , من شياطين الخراب والدمار والهلاك المبين.
هذا الهذيان الذي نقرأ أعراضه في كتابات كثيرةٍ , يقدم أصحابه أنفسهم وكأنهم في غفلة عن طبائع الأمور, وقوانين التأريخ وإرادة الأرض ومنهاج الأكوان والعصور , ويحسبون أن الأوطان الأرضية قد تكونت وفقا لمشيئة هذا وذاك , أو أنها تم صياغتها وفقا لمفاهيم آنية وتصورات مرحلية , وفي هذا يكمن جوهر الهذيان ومفرداته , وما يمليه على أصحابه من تهيؤات وسلوكيات لا تؤازرها إرادة الحياة , ومنطق التواصل والبقاء والنماء.
فالأوطان تكوّنت وفقا لإرادة الجغرافية والتأريخ والمسيرات الحضارية , والتفاعلات الأرضية الراجحة والمؤازرة لكيان الأرض , وقوانينها وثوابتها الدورانية في أفلاك المجموعة الشمسية والكونية, ولا دخل لهذا وذاك في صياغة حالة الوطن وملامحه الجغرافية والجيولوجية , لأن الأرض ذات صياغات تتكامل فيها عناصر الحياة ومفردات البقاء , وكل وطن عبارة عن عضو مهم في كينونتها.
ولا يمكن في هذه الحالة , تقطيع أوصال بدن كرتنا الأرضية , وتعطيل أعضاءها , والتوهم بأنها مجرد تراب , فالأرض كائن حي , والأوطان أعضاء , لها وظائفها في ديمومة حياته ودورانه.
ووفقا لذلك , فالوطن إرادة أرضية وكونية , وقوة ضرورية لحفظ التوازن الكوني بتفاعله مع كيانه الأكبر. وبهذا فأن التصور بأن البشر يمكنه أن يقطّع أوصال وطنه , إنما يعني فيما يعنيه , أنه أخذ يتصرف وفقا لمنهاج إنتحاري إنقراضي , لا يؤهله للحياة والتواصل عبر الزمن القادم.
وهكذا فأن القول بأقلمة الوطن وتبضيعه , إنما يُحسب هذيانا وسلوكا إنتحاريا أكيدا , وراميا إلى الفناء الحتمي , والموت الحضاري المفاجئ الرجيم.
وإن وجدتم بدنا يعيش من غير قلب , أو رأتين أو كليتين أو كبدٍ فأنتم الصادقون!
فاستفيقوا من هذيان الأقاليم , إن كنتم تعقلون!!
واعتصموا بحبل الوطن , وإلا فأنتم المنتحرون!!
مقالات اخرى للكاتب