لا أحد يتذكر تاريخ مصطلح باسم العلمانية المؤمنة ,والذي يعني بالضرورة وجود علمانية ملحدة و أخرى مؤمنة في الاتجاه الثاني.. ولكن طبيعة وحساسية المجتمع العربي , الذي يدين بالدين الاسلامي في غالبيته ؛ دعت بعض كتاب الامة الى اكتشاف مسمى يحميهم من الويلات ويمهد الطريق لتقبل الفكرة التي يريدونها ويهدفون الى تحقيقيها ؛ فكانت التسمية الجديدة ب { العلمانية المؤمنة } , و لا أعرف تاريخا محددا لظهور هذا الفكر في الساحة العربية الى الوجود , ولكن الشيخ مصطفى السباعي المنظر السوري العروف , قد قال في مثل هذا المجال الفكري كثيراً {إن الاسلام في تشريعه مدني علماني يضع القوانين للناس على أساس من مصلحتهم وكرامتهم وسعادتهم , لافرق بين أديانهم ولغاتهم وعناصرهم } والحقيقة ان العلمانية ومنذ قيام واستقرار الثورة القرنسية 1905م , أوجدت مفهوم فصل الدين عن السلطة , الذي تطلب أكثر من مائة سنة عند الفرنسيين, فيما اختزل الى سنة وأربعة اشهر عند النخب التركية في عام 1922م , وفي كلا المثالين كانت الظروف الخاصة جدا تحيط بالموضوع وتعريفاته
وحقيقة الموضوع تقوم على فكرة الدولة المدنية , التي تحيد المؤسسة الدينية وتحد من سلطاتها , وبالوقت نفسه تحفظ للجميع حقّ قبول الاخر بهويته التي ورثها من أبويه دون دخل له في ذالك...وبهذا تفصل بين الدين وبين السلطة ولكن لاتفصل بين الدين والحياة..ومن هنا تكون ضامنة لكل الحريات الفكرية الاخرى والعقائدية وتصب في الوقت نفسه بدلالات الاية الكريمة { لا أكراه في الدين } وهي ليست دينا جديدا منافسا ولا كنها فهم الانسان لنفسه و لطريقة عيشه في هذه الدنيا و ولا استبداد او تطرف في رفض كل اشكال الدين من الحياة او في رفض كل اشكال التفكير الفلسفي من الحياة ايضا
وفي عصر الدكتاتوريات العسكرية العربية , الّتي اذاقت المواطن الويلات والاهانات , نراها استبدلت الديمقراطية بالبدلة العسكرية وألغت كل الحقوق المدنية الا حقّ الحاكم العسكري وولده من بعده وعشيرته ومن ثم القرية التي ولد فيها ..فكانت تحيد الدين وتضرب بيد من حديد على اي فكرجديد يساري أو ديني على حد سواء , ومع ذالك فقد فصلت تلك الانظمة بين الدين والدولة , وطال أمد الاستبداد ..فكان الخراب ولا زال من أثاره كثير من الدمار الاخلاقي والاجتماعي والعمراني والعلمي..
ومثلت المنعطفات التاريخية الجديدة في الوطن العربي تحولات كبيرة في تاريخ المنطقة والشعوب العربية من الناحية السياسية والاجتماعية..والنتائج والمكتسبات الجديدة التي جاءت بفعل التدخل العسكري الخارجي { العراق وليبيا } او بفعل الحراك الجماهيري الكبير { تونس ومصر واليمن }, جاء بنتائج جديدة شكلت صدمة كبيرة للمتتبع للاحداث العربية والاقليمية وخيبة أمل...., تمثلت بصعود نجم الاحزاب الدينية وسيطرتها على المؤسسات المدنية والعسكرية بل سيطرتها الكاملة على كل مرافق الدولة , سواء بزغت هذه الاحزاب بفضل صناديق الانتخابات أو التسلق الى السلطة فقد باتت عاملا مهما في المنطقة العربية و الاقليمية كلها...وجل هذه الاحزاب جاء بمقدمات فكرية داخلية وخارجية , اما الخارجية فقد انصبت على عداء امريكا ودول الغرب الاوربي من جهة وعداء ايران او الولاء لها من جهة أخرى وبحسب الاحزاب الحاكمة ...ولكن سرعان ما تخلصت من عقدة العداء للغرب بأقامة علاقات مريبة ومثيرة معه ..تشبه الى حد كبير علاقات الغرب بالانظمة الدكتاتورية السابقة..وبقيت على توتراتها مع ايران وطاعتها في دول اخرى...انسجاما مع الفكر المذهبي وولاء لانظمة عربية بعينها في مواضع اخرى.. وبعيد هذا وجدت الاحزاب الدينية ولاسيما السلفية منه , وجدت نفسها متورطة بشعارتها الاصولية ومدى تطبيقها على أرض الواقع.فكانت الازدواجية في التعامل مع الاحداث هي السمة الاولى في عمل الحكومات الاسلامية بعد التغيير العربي , والامثلة على ذالك كثيرة ومنها:-
رفض الاحزاب الاسلامية الحاكمة الربا المصرفي وتعده من المحرمات ولكنها تهرول وتتوسل صندوق النقد الدولي !!! وهي تحسب غير المسلم كافرا يجوز عليه من قوانينيها ما يجوز ولكنها تسكت عنه الى اشعار أخر ربما وربما بسبب الوضع الدولي..تؤمن بالبيعة للخليفة المسلم وتجري الانتخابات على أرضها ؟؟؟ تصدر التأشريات للدخول لاراضيها وتؤمن بأن لاحدود في الدولة الاسلامية؟؟؟ تستنكر الارهاب وتجيشه في دول أخرى..تؤمن بالعداء المذهبي لايران وتتوسل بالعثمانيين الجدد..تنصرالجيوش في افغانستان وتجاهد ضدها في العراق... تؤمن بالعدالة الاجتماعية وتتمثل بالخلافة الراشدة.....فيما توزع الارباح بين شخوصها ومؤسسيها فقط..؟؟
اذن هو المأزق الفكري الجديد الذي حلّ بنا مع الاسف والذي قد يتطلب اربعة عقودا أخرى من الزمن لرحيله , مالم تفهم الحكومات العربية الجديدة, بأن التغيير يبدأ من أحترام هوية المقابل وقبوله بالمواطنة وبناء مؤسسات المجتمع المدني , الكفيلة لكل حريات المذاهب , وتحت سلطة القانون مع الاحتفاظ بالهوية تحت مظلة الوطن الواحد..تلك هل أبسط مفاهيم العلمانية الحديثة والتي هي ليست بدين جديد أو فلسفة تعادي الدين بقدر ماهي أسلوب لقيادة الدولة المدنية الى بر الامان..
ان العقود القادمة والتي من المؤمل ان تشهد البلدان العربية بعدها صحوة حياتية كبرى ¸من الممكن لها أن تختصر كما اختصرت عند النخب التركية في مطلع ثورتهم ضد السلطان العثماني....ولاسيما مع تحركات اليسار المصري الديمقراطي والذي اثبت بما لايقبل الشك , بأنه لايهادن ولا يساوم وأن ثورته قائمة لامحال... ومن بعده اليسار التونسي وعلى الرغم من صعوبة الوضع هناك ,لان دول ما بعد التغيير العربي عادت لتستخدم الجيش والداخلية لقمع الاصوات المعارضة لها..بثوب جديد يقوم على تعويم الفتيا وتجريم كل من يقف في طريقها...ولكن تبقى فكرة العلمانية المستوعبة لمختلف الهويات هي الحل الافضل لضمان حرية الجميع ضمن أطار الدولة المدنية المتحررة .دولة بناء المواطن ودار المواطن في آن واحد.
مقالات اخرى للكاتب