ليلة القدر , تساوي ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر من العبادة , فما أعظمها وأعلى مقامها وشأنها , وما أصدقها من ليلة تذوب في وعائها حدود الأكوان.
إنها ليلة إنبثاق الروح من ينابيع جوهرها , وتحليقها بحرية الإيمان والإنتماء الأصدق لكُنهِ الصيرورات الكبرى , والآفاق البرهانية والأنوار اليقينية , في مهرجان السرمد والخلود الأعظم.
"إنا أنزلناه في ليلة القدر , وما أدراك ما ليلة القدر, ليلة القدر خير من ألف شهر , تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر , سلام هي حتى مطلع الفجر"
ومن المعاني التي تشير إليها:
التنزيل: يبدو أن التخاطب ما بين السماء والأرض يتحقق في هذا الشهر وبليلة مصطفاة , وكأن جميع أو معظم الكتب السماوية , قد بدأت تتوافد إلى الرسل في شهر رمضان.
ومن معاني ذلك , أن الفرقان الذي أنزل بلسان عربي لكي يعقله الناس , يدعونا لمراجعة أنفسنا , وتقييم فهمنا ومعرفتنا به , لأنه قد تحول إلى رسم بحروف عربية , ويقرؤه معظمنا وكأنه يقرأ شيئا مكتوبا بلغة أعجمية , حتى تلفظنا لآياته ما عاد صحيحا , أما فهمنا فهو الأمر العصي الذي تشير إليه أفعالنا , وأعمالنا التي تجهله.
الإدراك: حالة معرفية تساهم في صياغة الوعي الإنساني , والفهم الأصوب , والتفاعل الأصدق مع الموجودات.
وما يجري في واقعنا البشري ناجم عن آفات الإدراك , وتباين مستوياته , وأمراضه التي تتسبب في تداعيات صراعية دامية.
المقام: ليلة ذات شأن عظيم , يتكاثف فيها الزمن ويحتشد , فيتحول إلى ليلة ذات قيمة ثمانية عقود وثلاثة سنوات وأربعة أشهر , وفي هذا , تأكيد على أن أبعاد الزمن يمكنها أن تنكمش وتغيب في مفردة زمنية أخرى متناهية في الصغر , بمعنى أن المخلوق يمكنه أن يستحضر الزمن فيه , ويسبره بآلة روحه الطاهرة النقية المتوثبة المخترقة للمصدات والعوائق والحواجز الإدراكية والحدود!
التسامي: الإرتقاء بالنفس البشرية إلى فضاءات علوية , ومدارات صافية رقراقة , تؤهلها للتحليق الأعلى في سماوات الإشراقات الفياضة , والأحلام اليقينية الدفاقة , فيكون المخلوق أقرب إلى بارئه , وأكثر معرفةً ووعيا بذاته , ويمسك بعناصر جوهره , ومعاني سيرته ورسالته الإنسانية , ورحلته الإيمانية , فيمتلك طاقات وقدرات التحرر من أصفاد الطين!
السلام: هو الألفة والمحبة والأخوة والتناظر الحي الرحيم.
وليلة القدر ليلة السلام المعطر ببركات السماء , وملائكة الرحمن الرحيم , ولسان حالهم يقول: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" الأنفال 61
فالسلام ثمرة ناضجة من دوحة الإيمان الوارفة , التي تغذي المؤمنين بأشهى سلاف المقامات المحمودة , وأعذب قطرٍ من فيض النسمات المولودة , من رحم الذات الموعودة.
فالسلام روح هذه الليلة , وقلبها , وأساس دروسها, ومنهاج طقوسها , ودليل المؤمنين الأصدق لمحبة ربهم , وخالقهم وباعثهم يوم الدين.
فاغنموا ليلةً الإدراك والمقام والتسامي والسلام , في شهر رمضان الكريم الغنّام!!