قد يكون الحديث عن الجبهة الداخلية ومتانة الجبهة الداخلية, في هذه الايام العصيبة, مثل اطلاق نكتة لا تضحك احداً, بعدما وصلت الامور فيها الى ما نكابده من فوضى التغييرات الديموغرافية ( السكانية ) والجغرافية المفاجئة في خارطة الوطن العراقي, بسبب تكالب قوى الظلام والتخلف والتقسيم على شعبنا ووطننا. واذا كان تعبير الجبهة الداخلية يعني من بين ما يعنيه, وجود حد أدنى من الثقة بين القوة المدنية الشعبية والحكام لحفظ كيان الدولة واستمرارها في اداء مسؤولياتها الدستورية ازاء المجتمع, وادارته بشكل عادل, فدولتنا التي تعاني من تفكك مؤسساتي اصبحت عاجزة عن اداء ابسط مبررات وجودها الا وهوالحفاظ على الأمان والسلم الأهلي, وباتت غير قادرة على وضع القوانين والآليات المناسبة لبناء انسجام مجتمعي ناهيك عن توفيرها متطلبات ديمومة هذا الانسجام, وخضوع الجميع من ثمة, بغض النظر عن انتماءهم الاثني او الطائفي او انحدارهم الطبقي, لسلطة القانون مع التزام جماعي بالمسؤولية الوطنية ازاء وحدة الوطن .
ولكن ما موجود هو عكس ما هو مطلوب تماماً, فلا يخفى على احد مدى هشاشة الجبهة الداخلية واوصالها المهلهلة, التي هي تركة فاسدة مما خلفته سياسات النظام الدكتاتورية البائد الرعناء, بتفكيك البنية الاجتماعية والتي جرى مفاقمتها بتبني نهج المحاصصة المكوناتية, الطائفي- العرقي وتصارع اطرافها على جني اكثر ما يمكن من مكاسب وامتيازات على حساب المواطن.
وقد كان ابلغ تعبير عن هشاشة الدولة العراقية المستندة على نهج الدكتاتورية قبل 9 نيسان 2003 هواسقاط المحتل الامريكي للسلطة المتبجحة والسيطرة على العاصمة بغداد بدبابتين والهروب الدراماتيكي لتشكيلات النظام الضاربة وتلاشي كامل قوته القمعية بين ليلة وضحاها . كما ان هشاشة الدولة العراقية القائمة على نهج المحاصصة الطائفية- العرقية بعد 9 نيسان 2003, بدا جلياً فاضحاً يوم 10حزيران 2014 يوم انهارت مؤسسات الدولة في عدة محافظات في غضون ساعات وبشكل يثير الدهشة والريبة معاً , بمجرد اشاعة وبدون مواجهة عسكرية, واضمحلال قوة فرق عسكرية بعديدها الهائل واسلحتها المختلفة امام شرذمة ضالة من زعران الفاشية الاسلامية, وكذلك انتهاز حليف محاصصي في السلطة فرصة هذا الأنكسار للسيطرة على اراضٍ واسعة بشكل غادر بكل ما تحمله تلك اللحظة التاريخية العصيبة من مأساوية.
لقد جاءت دعوة المرجعية لكل عراقي قادر على حمل السلاح بالتطوع لمواجهة الهجمة البربرية محاولة لأنقاذ ما يمكن انقاذه من كيان الدولة وهيبة مؤسساتها وللروح المعنوية لافراد قواتها المسلحة ولما تبقى من بصيص أمل لدى الكثير من ابناء شعبنا الذين اعادوا انتخاب الفاشلين والفاسدين وسراق المال العام في الانتخابات الاخيرة بالضد من مصالحهم, ولكنها لن تشكل بديلاً عن الحاجة الملحة بترصين الجبهة الداخلية ومعافاتها, وهذا لايمكن تحقيقه الا بنبذ نهج المحاصصة المقيت وانتهاج سياسة وطنية جامعة.
فعلى الرغم من صدق الدعوة الموجهة من قبلها لكل العراقيين للوقوف امام الهجمة الأرهابية فان التحشيد العام اتخذ في اغلب الاوقات منحىً طائفياً وقد استغلته ميليشيات وقوى ظلامية شيعية, طالما ارتكبت ابشع الجرائم ضد الشيعة قبل غيرهم, للأعلان عن وجودها الفعلي المسلح على الارض و بأسلحة ومعدات وتجهيزات يصعب اخفاءها في سرداب او مخزن معزول بعيداً عن انظار اجهزة السلطة الاستخباراتية, والذي لم ينطل يوماً على العراقيين إدعاء قادتها بتحولها الى منظمات سياسية او حل اذرعها المسلحة. ومن اولى مؤشرات استعادة نشاطاتها المشبوهة جنباً الى جنب مع ارهاب القاعدة هو عودة ظاهرة الاغتيال بكاتم الصوت والاختطاف على الهوية و محاولات مصادرة حرية الرأي بمداهمة الصحف ومصادرة الحريات العامة بفرض قوانينها الايديولوجية الظلامية على جموع العراقيين, بتطبيق نمط حياة وتفكير واحد أوحد, وتنصيب ذواتهم , أسوة بمجرمي داعش, قضاةً على سلوكيات البشر, وسلب الخالق حقه الالهي الحصري في محاسبة المذنب.
وكان من أوجه استفحال ظاهرة استغلال دعوة المرجعية من قبل الاحزاب الاسلامية أعلان قادتها صراحة وبمبادرات حزبية منفصلة وبدون تنسيق مع الدولة, أرسال متطوعين تحت يافطاتها الحزبية وليس على أساس التطوع الفردي, كما يفترض, لمقاتلة ارهابيي داعش, وبدعوى الامتثال لفتوى المرجعية, لاسيما وان ما يهمها هو الدفاع عن الأماكن المقدسة وليس انقاذ أبناء جلدتهم من بطش أوباش الدولة الأسلامية. على الرغم من تصريحات رئيس الوزراء نوري المالكي بوجود لجان تحشيد ( تطوع ) تابعة للدولة لتنظيم العملية وتأكيدات المرجعية بأن مقاتلة الأرهاب تكون عن طريق القوات الأمنية حصرا ً ", الا ان قادة هذه الميليشيات اخذوا يتباهون علناً بتدخلهم في مسار العمليات العسكرية, وتقديمهم توجيهات لضباط بمراتب عليا في غرف العمليات العسكرية .
وسعياً منهم لأشاعة أجواء الحرب وعسكرة المجتمع , نشهد تقليدهم المسلك البعثي ايام الحرب مع ايران في ارتداء قادة احزاب اسلامية او مسؤولين حكوميين او نواب برلمانيين, البدلة الخاكية او المرقطة, لابل تعدى ذلك الى تقليد رجال دين عراقيين لأقرانهم من الأيرانيين بأرتدائهم البدلة العسكرية مع اعتمارهم للعمامة, سوداء كانت او بيضاء ومشاركتهم في استعراضات عسكرية, ملوحين بالكلاشينكوف في استحضار لتقليد ايراني مستمد من ايام الحرب العراقية- الأيرانية .
ان نجاح قطعان داعش في السيطرة على عدة محافظات عراقية بسرعة قياسية وفرض شريعتها الهمجية على العراقيين واكتساح قوات البيشمركة الكردية لمساحات واسعة, لاتزال الجهود الدستورية تبذل لحل الاشكالات المتعلقة بشأنها وبما يضمن حقوق الجميع ثم استفحال دورالميليشيات الشيعية في الحياة العامة في مناطق الوسط والجنوب, كلها تشير الى هشاشة بناء الدولة ووهن الجبهة الداخلية والعجزالحكومي عن معالجتها, وهذه مجموعةً, نتاج نهج المحاصصة التقسيمي لكيان الوطن والتفريطي بحقوق مواطنيه.
ان اصرار القوى المتنفذة على اجترار نهج المحاصصة, الذي أثبتت الوقائع اجراميته, اشتراك رسمي في المؤامرة التي يجري طبخها لتقسيم البلاد واشعال نيران الحرب الأهلية التي لاتبقي ولا تذر والتي سوف لن توفر احداً , ولا يمكن الخروج من هذا المأزق ودحر الأرهاب وبناء الجبهة الداخلية الا من خلال انتهاج سياسة وطنية عابرة للطوائف والعرقيات اساسها سيادة القانون وهدفها عدالة اجتماعية ناجزة, وكل هذه المباديْ لاتدخل ضمن اهتمامات القوى المتنفذة التي تجر البلاد والعباد الى مصيرمجهول.
مقالات اخرى للكاتب