من بين الأمراض المزمنة التي تعصف بالبلد ، ومن بين موجات البطالة القياسية بين الشباب ، وتهميش متعمد للكفاءات ، وترجيح كفة الأميين الحزبيين على الخريجين في كل مرافق الدولة ، وتفشي الرشوة بمبالغ ضخمة لأجل التعيين ، وأغلاق جميع ابواب أمل التعيين بوجه المستقلين ، لأن مفاتيحها بيد الأحزاب ، سنية كانت أم شيعية ، ظهر مبدأ التعيين المؤقت تحت عنوان (أجير يومي) ، علما أن حتى هذا المبدأ يحتاج أيضا الى (واسطة) أو (دفعة) على الأقل ، على أمل التعيين مستقبلا ، يمر هذا (الأجير اليومي) بمراحل ، الأولى تقاضي الأجر على عدد ايام الدوام ، وإن كان محظوظا ، وبعد سنوات يشيب لها الرأس ، يتحول الى (التوظيف بعقد) ، ومزيدا من الحظ و(الدفعات) وأشياء أخرى ، يتحول الى موظف .
لست هنا بصدد نقد هذه الإجراءات التي أقل ما يقال عنها إنها متخبطة وترقيعية ومضيعة للحق كونها وضعت (على ما يبدو) لأرضاء طبقة (الديناصورات) المتورمة والمتعفنة وذات البطالة المقنعة والعقيمة إنتاجيا ، والبعيدة كل البعد عن مواكبة العالم الحديث ، لأنها عادة تضم متنفذين منضوين تحت تلكم الأحزاب ، لكني متعجب فعلا من مقدار هذه (الأجور) ، فأنا أعلم أنها تتباين من وزارة لأخرى ، لكن لنأخذ مرتبات وزارة الصناعة والمعادن كنموذج (لا يُقتدى بها) ! ، إن قيمة الراتب الشهري للأجير اليومي هو 200 ألف دينار ! ولا يهم اذا كان هذا الأجير يقرأ ويكتب فقط ، أم حامل لشهادة الماجستير ! ، وأعرف شخصيا ممن مضى على (أجرته اليومية) تلك 6 سنوات ! ، على أمل أن يتحول الى موظف متعاقد ! ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، فقد شملهم التقشف أيضا ! ، وهم يدفعون مبلغ 25 ألف دينار (أجور دعم) لسائق الخط ، أي ان ثمن المعاناة والدوام لشهر كامل هو 175 ألف دينار في أحسن الأحوال ! ، وقد شهدت بأم عيني ، أن معظم الأعمال (إن وجدت !) ، يؤديها (الأجير اليومي) الخريج ، متقاضيا عُشر راتب رئيسه الجالس على مكتب يعلوه الغبار ! .
وأتوجّه للدولة فأقول : بربكم ، ألا تخجلون ؟ وأنتم تستغلون حق طبيعي من حقوق الشباب ، فتبخسونه الى هذه الدرجة من البشاعة ؟ هل هذا الراتب الشهري يساوي سعر طبق في مطعم باريسي على منضدة أي سياسي بإيفاد مزيّف ؟ ، أم يعادل زجاجة شراب لأحدهم في أوربا وهو يكسر (حصار) حظر الخمور ؟ هل هذا المبلغ كافٍ لشراء (جُبة) لأحد المعممين ، أم لربطة عنق أحد المتاجرين بآلام لا حصر لها في هذا البلد ، هل يساوي ثمن زجاجة عطر إحداهن من السوق الحُرة بعد عودة ميمونة من السفر ، هل تكفي لشراء (فوطة) أو (زوج أحذية) لأحدى البرلمانيات ، هل هي كافية لوجبة في كافتريا مجلس النواب ؟ .هل هذا الأجر منطقي في نظركم ؟ على من تضحكون ؟ علينا أم على أنفسكم ؟ هل هذا يلبي طموح الشاب وحاجاته الأساسية المعيشية كالزواج والإعالة وايجار منزل وملبس ومأكل وفواتير ؟ اللهم إلا إذا إمتلكتم عقلية (النستلة) المشهورة ، والتي تدل على إنعدام الأتصال بالشارع وبحاجات المواطن لأنكم عزلتم أنفسكم في عالم صنعتموه ، فلا يمت بصلة للحقيقة المُرة والبشعة ، هل لهذه الدرجة ، أعمتكم الأسيجة والجدران الكونكريتية ، وصراحة لا أعلم ماالذي يدفع هؤلاء الشباب على المواظبة ، هل هو الأمل ، أم اليأس !؟.
مقالات اخرى للكاتب