سألني صديقي يوماً " هل يأكل الرئيس مثل البشر ؟ "وهل يمكن أن يتعرق او يخاف ؟ هل يأكل البصل ؟ وهل يمكن للتسوس ان يصيب أسنانه ؟ "
لم تكن أسئلة صديقي من باب السخرية او من أي باب آخر ، وإنما كانت نابعة من زاوية واحدة هي قدسية الحاكم في التفكير الجمعي بإعتباره فوق مستوى البشر وربما تكون الفكرة نابعة من نظرة قديمة للحاكم تفترض انه نصف اله .
قبض الأمريكان على الحاكم لتتمزق كل هالته التي صنعها بشتى الطرق ، ليخرج علينا أغبراً أشعثاً جباناً بمرتبة لم يتصورها الملايين من الشعب العربي والمسلم ، العراقيون ربما كانوا ابكر معرفة بذلك حينما انهار التمثال يوم 9-4 .
لم تعد تلك الهالة وتلك القدسية قابلة للعودة من جديد إلا عند بعض العقول المريضة التي مازالت تتغنى بالطاغية أو تلك العقول التي تحاول اليوم أن تصنع طاغيتها الخاص .
اما رجل الدين ولا سيما المعمم منهم فقد كانت هالته وقدسيته كبيرة جداً وربما إن أهم الأسباب هي في عدم اختباره الجدي عبر الإحتكاك المباشر مع المجتمع وحصر الأمر بالوعظ والإرشاد الذي تبين فيما بعد ان الكثير من الوعاظ لم يلزموا به أنفسهم وقدموا نموذجاً مفضوحاً قابلاً للكشف .
فبعد سقوط النظام وانفتاح الآفاق أمام رجل الدين بدأت تتأكل هالته التي صنعها المجتمع وصنعتها الأنظمة الإستبدادية بقصد او بدون قصد ، لأنه كان يمثل على الدوام الخط المناوئ للحاكم او ذلك الذي يمثل الحاكم وبطانته .
فمثلاً يعيب المجتمع على رجل الدين أن يركب في سيارة حديثة ويعيبه ان سكن في دار متميزة او تمتع بما يتمتع به غيره من الناس والسبب ان المجتمع اقام له هالة ترتبط بالإيثار والتقشف والزهد وتطليق الدنياوكره المال والترف وتفضيل مصالح الناس على مصالحه وكل هذه الصفات يذكرها الخطباء ويوصون بها النساء لكن الكثير منهم سقط في الإمتحان تحول لتاجر ومقاول لا يمكن التعرف على مصادر الأموال والمكاسب .
ربما إن الهالة والقدسية الأكثر مقاومة للتأكل والإنهيار هي هالة المثقف وربما إن السبب في ذلك ؛ ان تلك القدسية محصورة في مجتمع النخبة ويتآزر المثقفون لمنعها من التأكل ، إذ لا تواصل حقيقي وجاد بين المثقف والمجتمع ، وكأن المثقفين طبقة تقاوم انهيار قدسيتها امام العامة .
ورغم ان الثقافة مرت بمراحل ارتبطت خلالها كثيرا بالسياسة وبالأيديولوجيات المتصارعة على السلطة وصولاً الى" المثقف الديني" الذي أزدهر وجوده بعد 2003 .
إن غياب المواطنة والإنسانية القادرة على المساواة بين جميع البشر مهما كانت اعمالهم واختصاصاتهم قادنا الى ولادة كل هذه المسميات وتقسيم الناس الى درجات وتفضيل بعضهم على بعض حتى امام القانون وتمتعهم بحصانات عرفية مختلفة .
تأكل الهالات هي نقطة الشروع الحقيقية للمساواة وللمواطنة .