حينما ننتقد إعلاما ممولا من الخارج، فبكل تأكيد هذا واجب الصحافة الوطنية التي ترى أن المال العابر للحدود لن يكون من أجل نشر الخير والمحبة، وإنما يستغل لتمرير مشاريع وأفكار تعني الدولة الداعمة.
وحينما تصدر الحكومة قرارا بإيقاف ترخيص قنوات، يصل حد اغلاق مكاتبها التي تبث من داخل البلاد، في حال وجدت مؤشرات دامغة لتورط هذه القناة أو تلك في الاضرار بالوحدة الوطنية وبث التفرقة بين صفوف الشعب، قد تبدو الحكومة محقة في ردة فعلها إلى حد بعيد.
ولكن ماذا حول اعلام الدولة؟ وماذا عن الصحف والقنوات المستقلة التي تكافح من أجل أن تكون صوتا شعبيا يطلق الحقائق وينتقد الظواهر السلبية، وينمي الوعي المجتمعي؟ كل هذه الأمور خارج نطاق تفكير الحكومة.
إذ أن الحكومة، وحسب مقتضيات تمكنها من أدوات الدولة، تتحكم في كل المؤسسات الممولة من المال العام، بما فيها وسائل الاعلام المملوكة للدولة، وتقوم الحكومة بتسخير هذه الوسائل وامكانتها من أجل الترويج لصالحها، ونشر نشاطاتها وما تعتبره انجازات، دون أن يظهر صوت آخر يبين اخطاءها وتعثر خططها.
إن هذا الأمر يجعل من إعلام الدولة اعلاما حكوميا بامتياز، لا يمرر أي انتقاد باتجاه أي مفصل من مفاصل الحكومة، في حين يقف على الجانب الآخر إعلام مستقل يحاول أن يظهر الحقائق ويكشف عن السلبيات في محاولة منه لاطلاع المواطن على حقيقة ما يجري في جميع الاصعدة، ولكن ماذا سيجد القائمون على هذه الوسائل المستقلة؟
ستلاقي هذه المؤسسات الاعلامية الصد والجفاء من مؤسسات الدولة قبل مؤسسات الحكومة، حين لا تجد من يمد لها يد العون من المال المستقل، المال العام، مال الشعب، لأنهم يعملون من أجل خدمة هذا الشعب ويكافحون من أجل ايصال الحقيقة كاملة إليه، دون الركون إلى أية اغراض مسبقة.
فحين يغضب المسؤولون على وسيلة ما، نتيجة خبر او مقال ينتقد اداء الوزير أو وزارته، فان أول اجراء يتخذه، يضع هذه المؤسسة الاعلامية المنتقدة على لائحة المنع من الاعلانات، وكما هو معروف أن واردات الاعلانات تسهم إلى حد كبير في ديمومة الصحف المستقلة لتواصل خدمتها المجتمعية، في حين أن هناك وسائل اعلام مقربة من هذا الوزير أو ذاك تنعم باعلانات كبيرة المساحة وكلما كبرت المساحة زادت الايرادات، فضلا عن التمويل الخفي الذي يغذي هذه الوسائل.
إن هيئة الاعلام والاتصالات التي تجيز وسائل الاعلام، وتطالبها بسداد مبالغ البث الفضائي، وتوثق الاخطاء المهنية، وتستعين بوزارة الداخلية لتنفيذ احكام بغلق بعض المؤسسات، لم تضع في بالها أن تقدم مشروعا يوفر الدعم لوسائل الاعلام المستقلة، ما يجعلها تواصل عملها من دون الاحتياج إلى اموال سوداء، وكما أن الحكومة التي تريد أن تثبت سطوتها على وسائل الاعلام وتقوم بمحاسبتها حين ترى أنها ارتكبت مخالفة مهنية، عليها أولا أن تخصص نسبة من الميزانية لهذه الوسائل لتقوم بدورها المهني والاخلاقي، أو أن تقوم بتوزيع الاعلانات بشكل عادل على جميع الوسائل دون تمييز، ولا محاباة، وألا تجعلها وسيلة للضغط على الصحافة الحرة المستقلة.
وعلى الدولة أن تنتبه إلى ان المشروع الديمقراطي لا يمكن أن يبنى بصوت واحد، ولا يمكن لصاحب رأس مال حر مواصلة الانفاق على الديمقراطية والصحافة الحرة والمستقلة، إنه واجب الدولة، ويجب عليها ألا ترتضي قيام فرد بالانفاق على مشروعها الديمقراطي الذي بفضله وصل القائمون على مؤسسات الدولة إلى مواقعهم التي هم فيها الآن، ولكن عليهم وأعني المسؤولين الحاليين أن يضعوا في أذهانهم أن استمرارهم في مواقعهم الحالية أشبه بالمحال، فالديمقراطية التي أتت بهم يوما ستطيح بهم من خلال صناديق الانتخابات.
مقالات اخرى للكاتب