البشر مخلوق قائم , ولم يكن أفقيا ولا منكسر القامة , وهو يمشي على إثنين وليس على أربعة , ويخطو ولا يقفز.وقامة البشر تنتهي في الأعلى برأس وفي الأسفل بقدمين , وإذا إنفرجت ساقاه شكّل مثلثا بزوايا حادة , ولا يمكن للبشر أن يشكّل مربعا بقامته , والبعض يحسب قامته قطرا لدائرة , ولكن البشر في مجمل قِوامه مخلوق مستقيم القامة ويمشي على قدمين , وله رأس وفم وأنف وعينان وأذنان ويدان , وقوامه منسجم ومتطابق في مظهره العام؟!
ولكي يمشي البشر يحتاج لرأسه , لأن فيه مقوَد وجوده وكنه حياته , وإذا فقد البشر رأسه يموت , لكنه لا يموت إذا فقد قدميه أو ساقيه , لأن رأسه سيتدبر الأمر ويبتكر ما يعينه على الحركة والإنتقال من مكان لمكان.
وفقدان الرأس لا يعني قطعه أو بتره بآلة حادة وفصله عن الجسم , فهذا معناه الموت , لكن الرأس قد ينفصل عن الجسم البشري بآلات أخرى غير السكين والسيف وغيرهما , فهناك خلع نفسي مبرمج لرؤوس الأفراد والجماعات والشعوب والأمم.
وفي هذا الخلع النفسي , يتحقق الإنفصال الكامل ما بين الأقدام المتحركة والرأس , فتتيه الخطوات وتأخذ أصحابها إلى حيث إرادة المتاهات وما تتطلبه من مفاجآت وتحديات , لا قِبَل للأقدام المتخطية في دهاليزها أن تهتدي لمخرج آمن , لأن الرأس مخلوع وبوصلة بقائها معطلة , وبهذا تكون عرضة للهجمات الإفتراسية من أية قوة متربصة تبحث عن وجبة طعام جاهزة , وما أسهل صيد التائهين والإيقاع بهم في شِباك الصيادين , في متاهات الوعيد والمصير المهين.
والمجتمعات المخلوعة الرؤوس تلد مَن يتكلم بلسان أقدامها الحائرة , فتنتشر فيها الضلالات وخطب وأقوال ومنشورات البهتان , المعبرة عن التيهان وعدم القدرة على إدراك طبيعة المكان , وخصائص الزمان الذي تكون فيه , وما هي إلا في مكانٍ وزمانٍ غيره وينافيه.
وفي بعض المجتمعات المعاصرة ديسَت العقول ورُفِعَت الأقدام , فتمكن القهر والظلم والفساد وتراكم الظلام , وغاب العقل وتحوّل ما تنتجه النواهي لضرب من التخريف والسراب والأحلام , وكأن الروح لا تعود والأجيال عقيمة والرؤوس مثل أوعية دود , فلا فعل حميدٌ ولا رحمٌ ولود!!
والمجتمعات التي تعز أقدامها وتعلي من شأنها , وتهين رؤوسها وتذلها , ماذا يُرتجى منها , ألا تستحق أن تكون من ممتلكات الآخرين , الذين يقبضون على مصيرها ويحررون طاقاتها , ويستثمرونها لتقوية قدراتهم ومشاريعهم الإقتصادية التنافسية التصارعية المهيمنة على القوى الأرضية؟!!
فهل ستعود المجتمعات المنكوبة إلى رؤوسها , وتدرك أن أقدامها لا تخطو من غير الرؤوس المبصرة المدركة لخارطة المصير؟!!
مقالات اخرى للكاتب