اصبحت امريكا مزهوة بنصرها, الذي طحنت به الجيش العراقي المحتل لاحدى دول الخليج, وعززت من وجودها العسكري في اكثر المناطق وفرة لمصادر الطاقة الطبيعية, وقد ضاعف هذا الخيلاء والزهو الامريكي؛ تفردها بالعالم وبقائها كقطبٍ أوحد بعد تكسر قطب الاتحاد السوفيتي, وتلاشي قوته, فهيمنت تلك الاحداث على انماط التفكير السائدة, وظهرت للعالم نظريات كان اكثرها شهرة فكرة نهاية التاريخ والتي تنص على ان الديمقراطية الليبرالية تمثل نهاية التطور الايدلوجي للانسان.
لم يراود احد الشك في انعكاس نجاحات السياسة الخارجية تلك, على الداخل الامريكي كزيادة في رصيد الرئيس بوش الاب, الذي واكبت ولايته الاولى نهاية للحرب الباردة وحرب الخليج, فاصبح حسم الانتخابات لصالحه مسألة وقت وهو يكتنز كل تلك الانتصارات, الا إن الذي جرى خسارة هذا الرئيس, بكل ثقلة السياسي والمالي - كونه من الملاك الكبار لشركات النفط - امام الشاب بيل كلنتون الذي لم يتجاوز عمر اولاده.
لم يكن للحظ دخلا في نجاح هذا الشاب الوسيم -كما يعمل عندنا في العراق- وتسلمه لرئاسة اقوى دولة في العالم عسكريا واقتصاديا, بل كان التخطيط الذكي, الذي التقط فكرة ان الحلم الامريكي الذي يعبر عن طموح المواطن والمهاجر لتلك البلاد الثرية, لم يكن يوما مع ادمان الحروب الخارجية, بل إن الجميع يفكر في حيازة الثراء والتمتع بالسياسيات الاقتصادية الناجحة, فكانت هذه الفكرة ملهمة لجميع الناخبين الذين تضررت مصالحهم من الكساد الذي رافق الحروب الخارجية ووجدوا في الشعارات التي يرفعها كلنتون عودة الى تحقيق حلمهم بالثراء والرفاهية.
هذا الشعار هو الثقافة التي يجب ان نتبناها نحن العراقيون, بعد ان مارسنا ديمقراطية كان الفائز بها على الدوام, من يختلق الازمات ويصعد في النزاعات ليثير دفائن النفوس, ولم يكن عونه في ذلك الا الزيادة الكبيرة في اموال النفط التي وظفوها بصورة بائسة, عنوانها الهبات, والعطايا, ومراكمة افواج من البطالين في دوائر متخمة, وضياع لادنى حنكة في استثمار تلك الموارد الكبيرة, في بناء اقتصاد قوي وتنمية مستدامة.
علينا ان نطالب الساسة بدل ان يلتفوا حول انفسهم كدودة القز, ان يطرحوا سياسات اقتصادية ومشاريع عمل تنهض بالبلاد, وان يبدلوا افكار الانتقام والاقصاء والتفرد بحلم العمل, والثراء والمشاريع الخاصة, والتعاون, خصوصا بعد أن كشف التراجع الكبير في اسعار النفط هزالة الادارة السابقة وضياع فرصة دفع الاقتصاد, وتضاؤل التوظيف امام افواج الباحثين عن العمل من الخريجين الذين يقدرون سنويا بمئات الالاف.
ان علم الاقتصاد يختلف عن الفيزياء, اذ يرتبط بصورة مباشرة بثقافة المجتمع, وتوجهه, فللعلماء في ناسا ان يعلموا ليل نهار, ويسطروا الاكتشافات, ولا يهمهم ان كان المجتمع لديه فكرة عن ميكانيكا الكم ام لا, فعملهم لا يتأثر بثقافة المجتمع, بخلاف علم الاقتصاد الذي ترتبط نظرياته, وتوصياته بثقافة الناس, وممارساتهم, لذلك فان الدولة مسؤولة بكافة وسائلها الاعلامية عن الترويج للافكار الاقتصادية, واقناع المجتمع بجدواها.
وفي ظل ذلك التخبط الذي رافق ادارة الدولة, سنتذكر ولو بعد حين من طرح رؤى اقتصادية ناضجة كالمرحوم الجلبي والسيد عادل عبد المهدي اللذان دفعا بكل جهديهما لان تتنازل الدولة عن ما تملك لصالح المجتمع, ليأخذ القطاع الخاص بمشاريعه الصغيرة, والكبيرة, دورة في بناء اقتصاد سوق متحرر من النظام المشوه السائد اليوم, وسنتذكر ايضا ان مشاريع جبارة كتأسيس شركة قابضة لانشاء مشروع ميناء الفاو الكبير والتي اقترحها السيد الزبيدي كانت فكرة رائدة لتمويل إنشاء الميناء, الذي يوفر عشرات الالاف من فرص العمل, ومردودات مالية ضخمة,وقد حال دون الاسراع في إنشائها ضعف الثقافة الاقتصادية وقلة الثقة بمؤسسات الدولة.
مقالات اخرى للكاتب