تدور حاليا أحاديث بخصوص وجود نوايا لدى البعض لإلغاء هيئة التعليم التقني ، تلك الهيئة التي خدمت العراق منذ تأسيسها عام 1969 واستطاعت تخريج عشرات الآلاف من التقنيين في المستويات والاختصاصات المختلفة التي كانت ولا تزال لها أدوارا فاعلة في بناء وتطوير بلدنا العزيز وفي مختلف القطاعات ، والمدافعون عن فكرة الإلغاء يعتقدون بان دور الهيئة قد انتهى بعد أن تم استحداث أربعة جامعات تقنية ، وبالعكس من ذلك تماما فهناك من له رأيا معارضا لفكرة إنشاء الجامعات التقنية الأربعة عام 2014 ويدعون لإلغاء هذه الجامعات والإبقاء على هيئة التعليم التقني وإعادة الوضع إلى ما كان عليه ، ولكن من يدعو للاختيار بين إلغاء هيئة التعليم التقني أو إلغاء الجامعات لم يدرك تماما الأهداف العليا بالإجراء المتعلق بإنشاء الجامعات التقنية باعتباره إجراءا ايجابيا لأسباب عديدة :
أولها إن الهيئة كانت مهددة لان تصاب بالترهل الإداري بعد أن أصبح عدد تشكيلاتها أكثر من 46 كلية ومعهد وكانت هناك خطة لزيادة عدد المعاهد التقنية إلى 100 خلال السنوات القادمة ، وهذه التشكيلات تنتشر في 15 محافظة وهناك صعوبات أخذت تبرز في مجالات الترقيات العلمية ونشر البحوث وعقد المؤتمرات والحاجة لزيادة الرقابة للحؤول دون وقوع حالات في الفساد الإداري ، ورغم إعطاء الصلاحيات الكثيرة فقد كان البعض يضطر للمجيء إلى بغداد من البصرة أو الموصل أو الانبار أو غيرها لانجاز ابسط المتطلبات كالتظلم لدى رئيس الهيئة مثلا أو متابعة قضايا إدارية بسيطة تتعلق بالعلاوة والترفيع والترقيات والبحوث .
وثانيها إن العراق في 2014 لا يشبه حاله في عام 1969 ، حيث يتم منح الصلاحيات والتوجه للعمل بالأقاليم وضرورة إيجاد النظم اللامركزية ، فالمحافظات تريد التحرر عن المركز لكي تشعر بحريتها فكيف حال الكلية والمعهد في البصرة وكركوك والموصل ( مثلا ) حيث إن الارتباط بجامعة تقنية ضمن المنطقة الجغرافية مقنع لهم أكثر من الارتباط بالهيئة في بغداد فيما يتعلق بالتفاصيل التنفيذية في الجوانب الإدارية والمالية وغيرها .
وثالثها إن التحول للارتباط بجامعات بولي تكنيك أفضل الحلول التي اتخذت لان البعض كان يروج لان ترتبط المعاهد والكليات التقنية ضمن الجامعات الأكاديمية في المنطقة الجغرافية وهو إجراء كان من شانه مسح هوية التعليم التقني بالفعل كما حصل في تجربة التعليم المهني عندما تحول لأقسام ترتبط بمديريات التربية .
ورابعها إن من تولى الانتقال إلى الجامعات التقنية هم التقنيون أنفسهم وباقتراح منهم دون أن تفرض عليهم أملاءات ، وكانت الفرصة متاحة لهذا الانتقال بدلا من تطبيق قرارات عليا راديكالية قد تسبب الأذى للتعليم التقني فإنشاء الجامعات التقنية تم من خلال دراسات ومسوحات ومؤتمرات ، وقد صوت على إنشاء الجامعات التقنية ٨٨ شخصية علمية تقنية ٩٢ وامتنع اثنان عن التصويت ولم يعارض المشروع إلا صوتان بمعنى ان الانتقال تم بعملية ديمقراطية تم القسم من خلالها بالحفاظ على هوية التعليم التقني دون التفريط بهيئة التعليم التقني لمكانتها العلمية ، لذا فمن الغريب أن يتم التساؤل حاليا عن مصير الهيئة وجدوى استمرارها ، فكل الدراسات التي أعدت بهذا الخصوص قد أشارت إلى تحول الهيئة لكيان تنسيقي بطريقة عملية لأجل الحفاظ على هوية التعليم التقني وعدم إضاعة الجهود والتكاليف والتضحيات التي أنفقت في السنوات السابقة .
فالهيئة هي صمام الأمان للتعليم التقني في العراق والرابط بين الجامعات التقنية والمؤسسات الدولية للاستفادة من المنح والهبات والتسهيلات ، وان تكون من ينسق مع الاتحادات والمنظمات الدولية بخصوص الاستراتيجيات ذات العلاقة بالموضوع ، وتكون الجهة التي يمكن أن تستفيد من خلالها الجامعات التقنية من المنح والمساعدات ، وهذا الموضوع لم ينجز في حينه لأنه يحتاج إلى تشريع بتعديل جديد لقانون وزارة التعليم العالي فقد تأخر انجازه بسبب الأحداث الاقتصادية والأمنية والسياسية التي مر بها البلد بعد تأريخ تشكيل الجامعات التقنية الأربعة عام 2014 ، مما يعني إن أهمية وجود واستمرار هيئة التعليم التقني تتجسد من خلال تحولها كمؤسسة جامعة للحفاظ على انجازات التعليم التقني وإبقاء تجربة العراق الرائدة بهذا الخصوص وهذه المسالة لا يمكن إن تسقط بالتقادم بعد مرور سنتين أو ثلاث ، ويبدو إن البعض استثمر هذا التأخر فأصبح يثير التساؤلات عن مصير هيئة التعليم التقني ، فالبعض يقول هل ستبقى متسلطة على مقدرات الجامعات التقنية أم إنها ستلغى وتكون جزءا من الماضي ؟ وهي تساؤلات مشروعة اذا كانت من باب الحرص على الهيئة ، فتغيير مهامها يستوجب المرور بالقنوات القانونية التي تتطلب إعداد التعديل التاسع لقانون وزارة التعليم العالي رقم 40 لسنة 1988 ومن خلال مشروع قانون يتبناه مجلس الوزراء ، بعد أن تم الاتفاق عليه في اجتماع هيئة الرأي للوزارة ، وقد بدأت بذرة هذا التوجه في الاجتماع الذي انعقد في جامعة بابل والذي صوت فيه الجميع ( باستثناء صوتين ) على إبقاء هيئة التعليم التقني ومن الغريب أن يتم العدول عنه اليوم .
ويقضي المقترح بإبقاء الهيئة وإعادة صياغة مهامها وواجباتها بشكل يضمن التواصل الدولي والإقليمي والعربي مع المنظمات المعنية بالتعليم التقني ، ( لان الجهات العالمية تفضل التنسيق مع جهة واحدة كونه أفضل وانجح وبعضها ترفض التنسيق مع جهات متعددة ) ، وقيام الهيئة بمواصلة العلاقة مع الاتحاد الأوربي وغيره من المنظمات الدولية بخصوص تنفيذ اتفاقية إستراتيجية التعليم المهني والتقني ( TVET ) التي تستمر لغاية عام 2023 ، ناهيك عن التنسيق مع الجهات المانحة للاستفادة من المزايا العلمية والمادية ، باعتبار إن الجهات العالمية يمكن إن تقدم المنح والمساعدات لهيئة التعليم التقني أسهل من التعامل مع الجامعات التقنية الأربعة ، ومما لاشك فيه إن الإبقاء على الهيئة و تنظيم ارتباط الجامعات التقنية معها يعطي القوة والمنعة لها ، لان وجود أربع جامعات تقنية في هيئة واحدة لعله أفضل لها من وجودها ضمن ٢٩ جامعة من حيث التنسيق والترابط والتكامل والشمول فذلك لا يمكن أن يكون في ضوء المبادرات الفردية لوحدها وإنما من خلال العمل الجماعي وهو الأكثر ترجيحا ، فهناك ضرورة ملحة لوجود كيان تنظيمي لأغراض التنسيق والتوحيد وعدم التعارض ومنع ازدواجية الأعمال ، وهذا الكيان يجب أن لا يكون بيروقراطيا وان يكون فاعلا ويضم خبرات عالية ولا يؤدي إلى الترهل الإداري أو التدخل في صلاحيات الجامعات التقنية ، وإن التمسك بإبقاء هيئة التعليم التقني بهذا الوصف ، ليس غرضه الإبقاء على حلقة إدارية مضافة ، وإنما لمنع الهدر في الإمكانيات فعند إلغاء الهيئة ستضطر الدولة لاستحداث هيئة بمستوى وزارة أو اقل منها قليلا لكي تنسق مع الاتحاد الأوروبي بخصوص اتفاقية ألTVET فهي اتفاقية تتشارك بها الجامعات التقنية ووزارتي التربية والعمل والشؤون الاجتماعية واتحادي رجال الأعمال والصناعات العراقية ، وفي حالة تاسيس الهيئة الجديدة سيتم إنفاق مليارات الدنانير وتعيين العشرات من الموظفين دون دراية أو خبرات في حين إن إسناد المهمة بهيئة التعليم التقني تم بدون إضافة أية أعباء واستثمرت الخبرات المهنية .
وبحسب رأي المختصين الذين أسهموا في إنشاء الجامعات التقنية ، فإن ارتباط هذه الجامعات بهيئة التعليم التقني التي سترتبط بالسيد الوزير التعليم العالي مباشرة هو ليس حلا توفيقيا وإنما هو الحل الذي يجب التعويل عليه نظرا لخصوصية التعليم التقني ، فهذا الترتيب التنظيمي يحافظ على ابرز شروط مشروع الجامعات الأربعة الذي اوجب الحفاظ على هوية التعليم التقني وعدم التفريط بها وان لا تتحول الجامعات التقنية إلى جامعات أكاديمية بمرور الأيام ، والهدف ليس إضعافا لدور الجامعات التقنية إطلاقا , وإنما لإضافة قوة للتعليم التقني للتحوط من أي مساس بهويته والاتفاق على المشتركات في مجال المناهج والتدريب والتطوير والتحديث والرؤى والعلاقة والتنسيق مع المؤسسات المناظرة من دون إضافة أية أعباء إدارية أو أملاءات تخل باستقلالية الجامعات التقنية ، فالهيئة قائمة حاليا وقد تم ترشيقها إداريا ويمكن لها أن تضيف للجامعات التقنية ولا تأخذ من صلاحياتها قط ، والهدف النهائي هو أن تكون للجامعات التقنية مبادراتها في اختصار الزمن وتحقيق التقدم وتخريج الطلبة ليكونوا فاعلين في أسواق العمل وليس من هواة تعليق الشهادات على الجدران ، فما يتم التعويل عليه وطنيا هو انتقال التعليم التقني إلى حالة متقدمة في معالجة المشكلات التقنية الوطنية والسعي لاحتضان طاقات الشباب لتوفير فرص العمل لهم بعد التخرج ليكونوا منتجين وليسوا عالة على المجتمع .
والأمر لا يحتاج سوى تكييف قانوني لهذا الانتقال ، ونأمل أن تتبنى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فكرة تعديل مهام وواجبات وتشكيلات هيئة التعليم التقني ، كما نأمل من مجلس الوزراء الموقر أن يتبنى هذا المشروع الوطني باعتباره رافدا مهما للاقتصاد العراق ، وسوف لا يكون هناك أي خاسر من هذا التنظيم والرابح هو العراق فالجامعات التقنية هي جامعات تعمل باستقلاليتها الإدارية والعلمية والمنتسبون فيها من العاملين والطلبة هم ينتمون إلى الجامعات وهوية التعليم التقني ستبقى بأيدي تقنية للعمل على تطويرها نحو الأفضل ، ونعتقد إن هذا المقترح سيثلج صدور العديد من المخلصين للتعليم التقني بعد أن ابدوا البعض من قلقهم وخوفهم على مصير التعليم التقني ، ولا يعني بالضرورة إن ما تم عرضه سيتم فرضه على الآخرين فهذا الرأي قابل للمناقشة والحوار وإذا ما تم طرحه في هيئة الرأي ربما سيتم إثرائه من خلال النقاش البناء ، وربما تطرح أفكارا وآراء أخرى وهي جميعا محط اهتمام واحترام ، فالغاية هي إيجاد أفضل صياغة من حيث الملائمة والقبول وصلاحيتها للتطبيق وتوافقها مع البيئة التشريعية النافذة والقدرة على تحقيق الكفاءة والفاعلية في الأداء وبشكل يضمن الحفاظ على هوية التعليم التقني من الضياع .
مقالات اخرى للكاتب