غاراً وفي ايام صبانا وشبابنا، اثقلوا رؤوسنا بجملة عدّوها مأثورة «الزراعة نفط دائم»، ولم يتسنَ لنا حينها، او بالأحرى لم نلتفت الى طرح التساؤل المنطقي ازاء تلك الجملة الرنانة .. هل انها تعني اننا ليس بمقدورنا التخلص من تبعيتنا الى النفط؛ فنريد للزراعة أن تكون قرينة له، ام نطور الزراعة لتحقق لنا الارباح التي توازي ما يحققه لنا النفط، الذي بدأ يؤثر في حياة الناس بقوة لاسيما منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي؟
وبغض النظر عن حقيقة عقم الشعارات التي رفعتها الانظمة الدكتاتورية، وروجت لها، لتسويغ سياساتها الجائرة تجاه شعوبها؛ فان الانظمة التي حكمت العراق طيلة عقود لم تفلح في الارتقاء بواقع العراق الاقتصادي الذي هو زراعي اصلاً استناداً الى ثرواته المائية الكبيرة التي تخترق اراضيه، و تربته الخصبة في معظمها .. لقد ارتبطت شعارات «الزراعة نفط دائم» و «الارض لمن يزرعها» بأحلك المدد الزمنية التي مر بها العراق، اذ ترافق رفع تلك الشعارات، وبرغم الاموال الهائلة التي اكتسبها النظام السابق من الطفرة النفطية في سنوات السبعينيات، مع طوابير السكان المتدافعين بالمناكب من اجل ثلاث او اربع بيضات دجاج، يتحصلون عليها بعد عناء من احد الحوانيت، كما اقترنت بمظاهر التدافع الصاخب على حوانيت صمون الاعاشة، ومن المعلوم ان انتاج البيض يأتي من الشق الثاني من الثروة الزراعية اي الانتاج الحيواني.
اما ازمات الشاي والسكر، وهما منتجان زراعيان يرتبط توفيرهما بالعلاقة الجدلية بين المصنع والمزرعة، فكانت تجري بصورة دورية الى الحد الذي كان الناس في بعض المناطق يستعملون طبخة الشاي لأكثر من مرة. ولعل الاجيال الحالية لا تتذكر الكارثة التي نجمت عن سوء ادارة الواقع الزراعي، فيما عرف بكارثة حنطة المكسيباك، التي جرى استيرادها في سبعينيات القرن الماضي، المكسوة بمركبات الزئبق العضوية لمعالجة التعفن، ما ادى الى تسمم عدد كبير من العائلات الفلاحية في الوسط والجنوب، بعد ان زود الفلاحون بأكثر من حاجتهم للبذار, وبالنتيجة جرى تداولها في السوق، وقد جرى التعتيم على القضية التي تسببت في موت واعاقة كثير من الناس، على ديدن الانظمة الدكتاتورية. هذا جزء من الواقع السيء الذي كانت تدار به الزراعة التي ارادوا لها ان تكون نفطاً دائماً.
اما النفط ذاته، فلم ينتفع منه العراقي بما يؤمن حياته، ويرتقي بها في الاقل الى مستوى الدول الخليجية، التي نفوقها ثروات بأضعاف ومنها الامارات العربية المتحدة، التي تصنف من البلدان الاكثر ازدهاراً، ويصل فيها دخل الفرد من الناتج المحلي الى 48992 دولاراً سنوياً، أي 4082 دولاراً شهرياً، ولم توقف موارد ثرواتها على النفط فقط؛ اذ تنتج وتصدر التمور والسمك المجفف، و تطور معمارها الى الحد الذي جعلها في طليعة الدول السياحية، التي يأتي اليها الناس من معظم دول العالم وحتى من اوروبا واميركا، ما زاد من احتياطي عملتها الاجنبية.
اما عن دول العالم المزدهرة، التي لا تعتمد على النفط اساساً، فتلك سويسرا التي يبلغ فيها نصيب الفرد من الناتج المحلي 45286 دولاراً سنوياً، التي تعتمد في اقتصادها على الزراعة والسياحة والاعمال المصرفية وصناعة ارقى الساعات على مستوى العالم.
ان لدينا في العراق الطاقات الاقتصادية والبشرية الهائلة، وكم نشعر بالإحباط حين يقر مسؤول لدينا، إن «موازنة الدولة العراقية تعتمد بشكل اساس على 93% من موارد النفط وان مساهمة القطاع الصناعي لا تتجاوز 3%»، ناهيك عن الواقع الزراعي البائس، ويلحق ذلك الخوف بل الفزع الناتج عن تدهور أسعار برميل النفط بنسبة كبيرة.
وحتى الدول التي تمتاز بكثافة سكانية عالية، مثل الصين و كذلك الهند، فانها تحقق الاكتفاء الذاتي بمنتجاتها، وتصدرها الى الدول الاخرى، بعد ان حققت لنفسها مزايا الانتاج الواسع، وطفقت تصدر كميات هائلة من السلع الى معظم دول العالم، وحتى اذا افترضنا ان ربحها من كل سلعة بضعة دولارات، فلك ان تتصور مقدار الموارد التي تأتي الى الصين، بتصديرها كل يوم ملايين، بل مليارات السلع المفردة الى الاسواق العالمية، ونأت بنفسها عن الاقتصاد الاحادي الذي يعتمد على النفط، او غيره من السلع القابلة للاندثار.
لقد عجزت الدولة لدينا عن الاستفادة من الطاقة البشرية الهائلة التي يمتلكها العراق، فلم توجه تلك الطاقة الا في نواح لا تتعلق بالعمل والانتاج، ومنها الجيش، كما انها لم تهيء الفرصة للقطاع الخاص والشركات للعمل، بفشلها في بناء البنى التحتية المطلوبة، ومنها الطاقة الكهربائية، برغم الفرص الكبيرة التي استغلتها دول العالم استناداً الى ما يسمى «نظام الموجة الثالثة» التي اصبح انتاج البضاعة فيه شاملاً، وينطلق من المؤسسات الصغيرة التي تسد حاجة الناس؛ وفي هذا يقول المفكران ألفين وهيدي توفلر في كتابهما « إنشاء حضارة جديدة ـ سياسة الموجة الثالثة»، انه « في نظام الموجة الثالثة فإن الشركات الصغرى كثيراً ما تزيد في العدد على الشركات الكبرى، وأما تلك الفكرة القديمة التي تقول: إن قوة أي شركة متعلقة بكبرها، فإنها تصبح فكرة أكل الدهر عليها».
ولقد توصل المفكران الى ذلك بدراسة التطورات الهائلة لاقتصاديات اميركا واليابان واوروبا، ولاحظا ان 1000 منتج جديد، يظهر في الأسواق الأميركية، كل شهر.
ان امامنا فرصة تاريخية، بل فرص نوشك مرة اخرى ان نضيعها، بعد ان هدرنا كثيراً من الفرص التي اتيحت لنا، للانعتاق من الاقتصاد الاحادي المعتمد على النفط ومتغيرات اسعاره، والولوج الى ركب التطور المعافى
مقالات اخرى للكاتب