لا تُذكر مصيبة كربلاء، إلاَّ وتُذكر معها رائعة (يحسين بضمايرنا). وما أن تذكر هذه السمفونية الحسينية، إلاَّ ويذكر معها شاعرها الراحل رسول محي الدين، ومفجرها الراحل الشيخ ياسين الرميثي.. إذ ستظل هذه السمفونية خالدةً ما دام جرح الحسين خالداً في الضمائر، وما دامت مصيبته الكربلائية باقية في ذاكرة الزمن.. ومثلما تقفل عادة أبواب العاشر من عاشوراء الأسود بحنجرة القارئ الراحل عبد الزهرة الكعبي، وهو يروي على الموجوعين سيرة الحرية في عاشوراء الطف، فيمرَّ على أمجاد الشهادة مجداً مجداً.. ويستعرض فرسان البطولة واحداً واحداً، حتى يصل الذروة عند إستشهاد أبي الأحرار، وحرق خيَم العوائل العلوية، فإن أبواب عاشوراء، لايمكن أن تفتح دون مفتاح الشيخ ياسين، ورائعته الكبيرة (يحسين بضمايرنا). ليأتي بعد ذلك فرسان المنبر الحسيني الآخرون من أمثال الشيخ حمزة الزغير وعبد الرضا الرادود. والدكتور أحمد الوائلي، وغيرهم من ممجّدي الجرح الكربلائي. لقد أصبح مُحرَّم دون سمفونية الرميثي، (ومقتل) عبد الزهرة الكعبي ليس بمحرم، وسواد الناس ليس بسواد..
وها أنا أتذكر يومَ تشرفت لأول مرة بلقاء الشيخ ياسين الرميثي عام 2000 في جامع كربلاء بولاية مشغان، حيث كنت بصحبة فقيد الكرة العراقية الراحل الكبيرعبد كاظم، وعدد من أبناء الجالية العراقية في أربعينية الثائر البطل الشيخ كاظم الريسان. وقد كان لي شرف إلقاء قصيدة في تلك المناسبة. وبعد إنتهاء الحفل جاءني الصديق (سيد خلف) وقال لي: هل تريد أن ترى شخصاً تحبه جداً؟
قلت له: ياليت.. ولكن من هذا الشخص الذي سأراه؟
قال: تعال معي أولاً. ثم قادني من يدي الى رجل طاعن في الكبرياء، والهيبة، والشموخ، رغم علامات المرض التي كانت واضحة على ملامح وجهه المُتعب. وقبل أن نصل اليه، قال لي (سيد خلف) بصوت عال: هذا هو صاحب (يحسن بضمايرنا)؟ وقبل أن يرحب بنا (الشيخ) ياسين، كنت قد احتضنته، وعانقته عناقاً لا أجرؤ على عناق غيره أبداً. لقد كنت لحظتها أرى فيه العراق، فأعانقه بكل شوق وحرمان وحب. أو أرى في وجهه وجه أبي، فأقبله قبلة الأبن المحروم من أبيه لسنين طوال. أو كأنني ألثم فيه الجرح الحسيني النازف من كل قلوب المحبين لآل البيت (عليهم السلام). ولم يطل اللقاء معه للأسف، فقد كان المؤبنون يغادرون الجامع مسرعين.. ولا مجال للإطالة بعد ذلك قط.. أما اللقاء الثاني والأخير معه، فقد كان في مناسبة مشابهة جرت في جمعية (الفرات) العراقية في مدينة ديربورن، بولاية مشغان الأمريكية أيضاً. إذ خدمني وقتها الحظ، في أن تكون (گعدتي) الى جانبه تماماً، فلامست كتفي كتفه الشريف. وفي هذا اللقاء، كان الشيخ (أبو طه) متعباً جداً.. بحيث كان الجالسون يسمعون صوت أنفاسه، وهي تصعد وتنزل من أعماقه الموجوعة بصعوبة بالغة.. فقررت هذه المرَّة أن أستغل هذه الفرصة التي ربما لن تتكرر- وهي لم تتكرر بعد ذلك فعلاً- فقلت له:-
أتعرف ياعم، كم من الشعراء العراقيين سيحسدني على هذه (الگعدة)، لو علموا بأني أجلس معك الآن؟
فضحك الشيخ ياسين.. وقال: - أشكرك.. رحمة الله على والديك بويه..
قلت له: وهل تعلم بأن أمنيتي في الحياة أن تقرأ بعضاً من شعري بصوتك، فأخلد مع المخلدين من محبي آل البيت (ع)؟
فقال: (راحت علينه بعد والله، والصحة ما تتحمل يبن أخوي).
لقد تركت المنبر الحسيني بسبب المرض، والخير إن شاء الله في الغير.. فحُب الحسين لا يتوقف على صوتي.. وخدَّام أبي عبد الله الحسين يملأون الأرض والحمد لله..
قلت له:- وماذا تتمنى يا أبا طه في هذه اللحظة؟
نظر لي الشيخ ياسين، فرأيت دمعة تلمع بين عينيه.. لتنزلق بعدها على خده، وهو يقول:- وهل هناك أمنية أعظم من أن أكون قرب شباك الحبيب الحسين. لا أتمنى والله أمراً في حياتي غير زيارة أبي عبد الله. بعد أن يخلصنا الله من حكم صدام الجائر.
وبعد فترة وجيزة من هذا اللقاء مع أبي طه. حدثت المعجزة، وسقط النظام الدكتاتوري، فأنقذنا الله من حكم صدام ليعود بعدها الشيخ ياسين الى الرميثة ويعود معه في طائرة العودة عدد من أبناء الجالية العراقية فينعم بزيارة الحسين ويسعد برؤية مقامه الشريف دون منع، او ملاحقة. ثم يرحل الى دار الخلود بعد سنتين من سقوط صدام.
يقيناً أن الرميثي لم يكن رادوداً حسينياً عظيماً، ولا منبراً كربلائياً فذاً فحسب، بل كان ثورة على الظلم والطغيان. إذ كانت قصيدة أو رائعة (يحسين بضمايرنا) لوحدها صرخة ووثبة جبارة.. هي صرخة الحق بوجه الباطل، ووثبة الإيمان على الكفر، ونداءَ المظلومين لسيف الحق أبي الأحرار لإغاثة المضطهدين، ونجدة المحرومين. فقد كانت القصيدة بمثابة الزلزال الذي زلزل عروش البغي العفلقي. وكان مجرد ذكر هذه (الردَّة) الحسينية أمام البعثيين، يثير الخوف والهلع في قلوبهم الراجفة.