معرفة سلوكيات التطور لدى الميكروبات٬ أحد جوانب جهود الأوساط الطبية في معرفة تطور سلوكيات إصابة البشر بالأمراض على مر عصور التاريخ٬ وهي الجهود التي لا تزال في بداياتها. ذلك أن تحور قدرات الميكروبات نحو تحولها إلىُمسبب للمرض لدى الإنسان هو أحد أسباب ظهور أمراض ميكروبية لمُتعهد من قبل٬ كما أن التحقق من مدى تأثير عوامل خطورة الإصابة بالأمراض يعتمد في أحد جوانبه على عدم حصول الأمراض تلك حال انتفاء وجود عوامل الخطورة التي ترتبط بسلوكيات حياتيةُتمارس في حقب زمنية دون أخرى خلال تاريخ البشر. وُينظر إلى الطاعون بأنه أحد الأمراض الميكروبية القديمة التي تركت بصمات واضحة على تاريخ البشر٬ وعلى سبيل المثال ذكر الدكتور ليستر ليتيل في كتابه «الطاعون ونهاية العصور القديمة»٬ ضمن إصدارات جامعة كمبريدج في ٬2006 لفترة التاريخ الأوروبي ما بين عام 450 و٬1000 أن الموت الأسود٬ في إشارة إلى أوبئة الطاعون٬ قتل ما بين 30 إلى 50 في المائة من سكان أوروبا٬ وأن الطاعون كان من الأسباب المباشرة لعدد من الانهيارات السياسية والاقتصادية٬ وأن وباء طاعون جستنيان الذي ضرب الإمبراطورية البيزنطية٬ ويعد تاريخًيا أحد أسباب ضعفها٬ وهو الوباء الذي ظهر في صعيد مصر القديمة٬ وانتقل إلى القسطنطينية عبر سفن نقل الحبوب. وأن الأوبئة السابقة للطاعون أثرت على قوة الإمبراطورية الإغريقية. ونشرت مجلة «الخلية العلمية» ٬Journal Cell في عدد 22 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي نتائج دراسة الباحثين من جامعة كوبنهاغن في الدنمارك حول مزيد من عمق التقصي العلمي لتاريخ الطاعون. وقال الباحثون في مقدمة دراستهم: «الطاعون مرض تتسبب به بكتيريا يرسينيا بيستس Yersinia pestis التي تنتقل إما بشكل مباشر من إنسان مريض إلى سليم٬ وإما بواسطة البراغيث كونها ناقلة للميكروب٬ وأن ثمة ثلاثة أوبئة بشرية كبرى على مر التاريخ تم توثيق حصولها٬ الأولى طاعون جستنيان ما بين عام 541 و544 والذي استمر بشكل متقطع حتى عام ٬750 والثانيةُسميت بالموت الأسود في أوروبا ما بين عام 1347 و1351 على هيئة موجات وبائية متتالية أخف وطأة إلى نهاية القرن السابع عشر٬ والثالثة وباء طاعون الصين الذي بدأ فيها نحو عام 1850 وانتشر في عدد من مناطق العالم إلى منتصف القرن العشرين. وهناك أيًضا حالات وبائية أقدم مثل طاعون أثينا عام 430 قبل الميلاد وطاعون أنطونيون عام 165 قبل الميلاد ولكن لا توجد أدلة توثق تسبب بكتيريا يرسينيا بيستس في حصولهما أو حصول أي أوبئة أخرى سابقة في التاريخ. وعلق الدكتور إيسكي ويليرسليف٬ الباحث الرئيس في الدراسة من مركز جيوجينيكس بجامعة كوبنهاغن٬ بالقول: «وجدنا أن نسل بكتيريا يرسينيا بيستس ظهر وكان منتشًرا قبل ما كانُيعتقد بكثير٬ وتحديًدا أكثر من 3000 سنة٬ وضيقنا الفجوة الزمنية لمعرفة متى بدأ مرض الطاعون بالتحديد٬ وتوضح دراستنا نظرتنا حول متى وكيف تأثرت المجتمعات البشرية بالطاعون وهو ما يفتح طريًقا جديًدا لدراسة ظهور المرض». وأضاف: «تكشف النتائج التي توصلنا إليها أنه يمكن للمرء أن يجد الميكروبات المسببة للأمراض القديمة في المواد البشرية القديمة دون أن تظهر أي علامات شكلية واضحة من المرض على الإنسان٬ والطاعون هو مرض واحد فقط ويمكن للمرء استكشاف جميع أنواع الأمراض بمثل هذا الطريقة في المستقبل». وكان الباحثون قد تناولوا بالتحليل عينات لأكثر من مائة إنسان من مناطق أوراسيا٬ أي آسيا وأوروبا٬ ممن عاشوا في العصر البرونزي٬ وتبين من خلالها وجود سبعة أشخاص يحملون بقايا الجينات الوراثية DNA بكتيريا يرسينيا بيستس. واستخدم الباحثون تقنيات الساعة الجزيئية ٬molecular clock وهي تقنية تحليل وراثي تعتمد فرضية حصول الطفرات الوراثية في جينيوم الكائنات الحية من خلال تتابع نمط منتظم على الفترات الطويلة من الزمن. وتبين بالمحصلة أنها كانت موجودة قبل أكثر من 5700 عام٬ أي أكثر من 3000 عام قبل ما هو معروف من قبل. والملاحظ أن جهود تتبع تاريخ الأمراض على الرغم من أنها في بداياتها كنتائج ملموسة٬ فإنها جهود قابلة للتطور وقابلة أيًضا لوضع مجالات أوسع للاستفادة منها واستخدامها كتطبيقات لفهم الأمراض ظهوًرا وتلاشيا.
مقالات اخرى للكاتب