وتتلخّص بأنها الكيان الذي نعيش فيه سواسية. أما التمايزات بين المواطنين فتصنعها مواهبهم وقابلياتهم الفكرية والمهارية. الدولة التي نحلم بها راعية للجميع، ويأخذ فيها الجميع فرصته في العيش الكريم. فلا استبداد فيها تؤسّسه النخبة أو الدين أو المذهب أو اللغة. وبسبب من تكافؤ الفرص لأبناء هذه الدولة، فإن التنافس فيها كثيراً ما يقود إلى الإبداع.
السطور السابقة ليست نظرية إفلاطونية، كما يظن مواطن يائس، وساخر في الآن ذاته، يقضي وقته في المقهى يتلصّص على ندرة سيقان الفتيات في الباب المعظم، أو كاتب يعيش في بحبوحة ظلّ السلطة البارد، ونسمات هوائها العليل على طول ساعات النهار القائضة. إنها الصورة التي حلمت بها أجيال من العراقيين ابتدءاً من أول القرن الماضي ووصولاً إلى اليوم، ولكن حظّ العراقيين العاثر، بالإضافة إلى سلبيّة أغلبهم، سلّطت عليهم من يحوّل هذه النظرية، البسيطة، والمنطقية، والقريبة من الوجدان إلى كابوس، وإلى نظريات في تحطيم القيم والمثل، وصولاً إلى نظرية المكونات إياها، التي يدّعي ساسة اليوم أنها صنعها الحاكمُ بأمره بول بريمر، وانهم، صادقوا عليها فقط، وبدأوا بانتقادها حالياً.
والحق أن هذه النظرية لم يكن ممكناً لها أن تنمو لو كانت صنيعة بريمر فقط، كما يقولون، بل أن الذي كرّسها عراقياً هم العراقيون أنفسهم. ولقد بدأ تكريسها عبر مجموعة من الخطوات كانت أبرزها خطوة مجلس الحكم.
في مجلس الحكم كانت المشكلة أن الجميع يريد أن يكون بمثابة السيد الرئيس. شكا ممثلو الشيعة من ممثلي السنة، وشكا ممثلو السنة من ممثلي الشيعة وشكا ممثلو الكرد من ممثلي العرب، وشكا ممثلو المسيحيين والصابئة والإيزيديين من ممثلي المسلمين. باختصار: شكا الجميع، وقدموا مظالمهم لبريمر فلم يفعل هذا الأخير أكثر من اقتراح صفّ دراسي لهؤلاء التلاميذ، على أن يقود هذا الصفّ واحد منهم في كل يوم! فكانت الفرحة الكبرى، والغنيمة التي تلقفوها، وأحسنوا الاحتفاظ بها: الدولة، انها دولة المكونات.
وإذ ينتقد السيّد محمد عبد الجبار الشبوط دولة المكونات هذه، فلأنه يريدها أن تكون دولة المكون الواحد، أو العرق النقي. سيجد الشبوط، ومعه، ومن خلفه، المئات، وربما الآلاف، الكثير من الحجج لتمرير تصورهم لهذه الدولة، حتى يصل لمقاله المانفستو: المكوّن الشيعي!
ولكن ما الذي يريده في هذا المقال؟
يريد، باختصار، أن يفضّ الدولة التي نعرفها، والتي سمّيت باسم العراق، وتضمّ هذا العدد، والتنوع، من الأقوام. يريد أنتاج دولة جديدة، هي دولة الشيعة، على أن مشكلة هذه الدولة الجديدة تتمثل في أن الشيعة ليسوا كتلة واحدة.
التصور الذي يقدمه، ضمناً، السيد الشبوط، لا يمتّ بصلة للدولة الحديثة، أو تلك التي عرفناها في أول السطور. إنها بالأحرى الدولة التي تراود أحزاب الإسلام السياسي في كل مكان، ويرون فيها أنفسهم فقط وقد اقاموا الحدود، فقصّوا جناح هذه الجهة وقطعوا أرجل تلك!
والآن: أيّ الرؤيتين يمكن أن يختار أبناء هذا الشعب لدولتهم؟ رؤية لا ترى فيهم غير "مكوّنات" متصارعة، أو أخرى تريد أن تضعهم في إطار العدالة الاجتماعية الشاملة؟