جاء شارل ازنافور إلى باريس وهو يحمل طورا جرمانيا قال عنه شارل ديغول :كنت أتمنى لو كان صوتك معنا في المقاومة لما فقدنا الكثير من الفرنسيين ..!
جاء عبد الزهرة مناتي نازلاً من جنوب الفقراء وتخوم سومر المكبلة بعقال الفقر ويشماغ الخجل وهو يحمل طورا محمداويا قال عنه عريف الفصيل في اللواء الرابع عشر مشاة مقره ( الناصرية ) ويساق إليه حصرياُ أهل الناصرية والعمارة والحي: ياعبد الزهرة مناتي صوتكَ يشق الجبل نصفين لو ترجمه البرزاني كما في بحتك العمارتلية لبطل ثورته ولا يموت جنودنا وبيشمركتنا ...!
كلا المطربين انشدا أسطوريتهما باتفاق مبدئي بينهما على أن لايعلنا شراكة الشوق للقطار إلا حين يقرر التأريخ كشف أوراقه .فغنى شارل ازنافور ( قطار باريس وزهرة الأقحوان ) وغنى عبد الزهرة مناتي ( نازل ياقطار الشوق ..نازل هاي ديرتنه ) وهو هنا يتحدث عن مدينة افتراضية للعشق والشجن وصدى محبيه من جنود سريته .لأن ديرته أصلا لايمر فيها قطار .
والقطار الذي يشق شوارع الذاكرة والرسائل المخبأة في ذكورة الجنود يبدأ من بغداد نزولا إلى البصرة مرورا ببابل وعفك وأوروك وأور وحتى رئة السياب المثقوبة من السل تحت افياء نخيل البصرة...!في خيال هذه الحكاية المفترضة : تقول المس جيرود بيل ( العميلة الاستخبارية ومديرة أول متحف وطني عراقي ) سألني السير بيرسي كوكس أول مندوب سامي لبريطانيا في حكومتها الوطنية في زمن الملك فيصل الأول :هل نستطيعَ أن نوصل قطارا بين البصرة ودلهي ؟
قالت المس بيل : تأملت إصرار عينيه وقلت :هذا ممكن عندما نستعين بأساطير أهل سومر وبابل وبومباي .وجعل المنشدين لهذه الحضارات هم عمال المشروع فقط.....!
غنى عبد الزهرة مناتي بعفوية روحه وبساطة ثقافته وما يعتقد انه نبت من فطرة بدائية وبريئة ونتاج هوس ما يسكننا من إبداع ودمعة منذ أيام البكاء والحنين والغناء السومري وحتى ميكروفون إذاعة بغداد حيث لم يسمح لعبد الزهرة أن يدخل بصوته وخجله مبنى الإذاعة إلا بعد جهد جهيد وعندما صارت بحة حنجرة سلمان المنكوب ثقافة مطلوبة من اغلب مطوعي ومجندي القوات المسلحة العراقية وهو يطلق سيمفونيته الشهيرة :( أمرن بالمنازل ..منازلهم خليه ...أكولن وين أهلنه ..يكول اقطعوا بيه )..!
يلتقي مناتي بأزنافور في زاوية التأثير الحضاري للغناء في أحلام الشعوب .غير أن صوت عبد الزهرة مناتي الريفي ظل يمثل رؤيا الحلم الفقير والفطري والبرئ حد سذاجة التخيل مع هذه النسمة الصوتية بدلالها الغجري وهي تصنع متعة الإنسان في الانتماء إلى قريته وثمالة كأسه وأمنيات عشقه الضائع في نكد الحظ والفقر وجندية الجيش ليصير مناتي بعض راحة الشفاء والدواء وتمضية الوقت مع خيال تذكر الأحبة حين ننادي قطار الشوق ليقف وننزل نعاود ديارنا بعد منفى ونأي وغربة وبعاد.
شارل ازنافور هو صوت المدينة الرومانسي .صوت باريس والعذوبة الطافحة من جسد الورد الفرنسي المطعم بشهوة إباحية النظرة والثمالة والنعاس واللوفر ...
قالت عنه كاترين دينوف حسناء فرنسا القديمة :انه يشعرك بنشوة معطرة بإباحية الامتلاك لتتعرى تحت المطر وتسمع صوته وموسيقاه .
فيما عبد الزهرة المسكين لايمنح مثل هذه النشوة لربما صوته ممنوعا على إناث الريف ما دامت وجوههن مغطاة ببرقع الخجل .فيما هو مباح للذكور ليعربدوا ويتوثبوا ويعملوا فوضى خراب أرائك البارات عندما تصل النشوة مع صوت القطار النازل إلى جنوب الذكريات إلى الذروة وفائق الترنح بين السيكارة وبطل العرق ورسالة قادمة من الأهل إلى أعلى ربايا جبال اربيل ...!
الرجلان يتساويان بالفعل الحضاري بالرغم من اختلاف طريقة الغناء ولكنهما بفعل موحد يصنعان ذات البهجة ولكن الذائقة تختلف بين الثقافة الفرنسية والعراقية فأزنافور ارستقراطي ورومانسي والحان أغنياته تتناسق بهارمونية كلاسيكية تعد بالنسبة للفن الأوربي قمة الأداء والانسجام مع الصوت والموسيقى ليرتقي السامع مع لحظته الفاتنة.
.عبد الزهرة مناتي صوته استعادة لمحنة الهم الشرقي والحاجة والعوز والتنفيس لما يصيبنا في هذه الحياة من حروب وحصار وقتل بواسطة لاصقة أو كاتم صوت أو سياط الزنازين وبراميل الاسيد ..!
لهذا تكمن انفلات أغنيته الغجرية ــ الريفية في كمان يتدفق إباحية مشحونة بالمطالب والأماني لنسيان الهموم .فيما الذي يسمع شارل ازنافور لا يمتلئ هماً بل يمتلئ بهجة ونشوة ورغبة بمراقصة من معه وحتما سيكون سعيدا لو اتى عبد الزهرة الى باريس وغنى معه على مسرح الاولمبيا أسوة بأم كلثوم وفيروز .
بين مناتي وازنافور مكان يجمعهما في الحقبة الزمنية الواحدة .الفرق أن مناتي يطويه النسيان وإهمال المؤسسات الفنية والثقافية لرواد الحلم الجميل ..فيما شارل ازنافور يقول له ساركوزي الرئيس الفرنسي :انك باقٍ بهامتك العالية ابد الدهر كما برج إيفل ......!
مقالات اخرى للكاتب