أنعم الله سبحانه على عباده بالإسلام بعد أن كانوا يعبدون الأوثان معتقدين بأنها أرباب نعمتهم .. وانتشر الإسلام فتزكّت النفوس ، وتطهرت من أدرانها ، وقطعت أشواطاً في أداء العبادات والعمل الصالح عندما كان فجر الإسلام يضيء الدنيا من حول المسلمين، ولم تكن طموحات وأطماع الدنيا قد دخلت النفوس بعدُ في تلك الأجواء المفعمة بالمثل والقيم الأخلاقية التي أرساها الدين الإسلامي بعد أن تزلزل طاغوت الشرك والجاهلية والظـــــلم واستعباد الانسان وبيعه في سوق النخاسة .. ولم تكن مزالق الباطل ورسالة الإسلام في أوج عنفوانها قادرة على جذب الناس إليها لوجود مساحة من الإيمان بالدين الجديد وقدرٌ من الحياء والتعفف يحول دون الانجرار الى متاهات الوقوع في الأخطاء الفاحشة.
ومع تسارع وتيرة حركة الحياة وانطلاق التغيرات التي انبثقت منها أشكال مختلفة من الطموحات والرغبات في المراحل اللاحقة ، وتراكم الشُلل والتكتلات العشوائية الهجينة في المجتمع بدوافع الهجرة والنزوح وانفتاح الحدود واختفاء معالم الخصوصية المناطقية وانحدار المستوى الحضري والحياة المدنية الى اعتاب الحياة الريفية وحمّى السباق ولهاث المجتمع خلف المنافع الماديّة نتيجة للحرمان والتخلف ، وظهور أصحاب المال والتجمعات المالية والقوى الضاغطة في المجتمع التي تسيطر على المال ومرتكزات السلطة وتمتلك النفوذ الذي جعل منها قوة غاشمة في المجتمع يلتف الناس حولها ابتغاءً للمنافع الماديّة والتقرب الى السلطة التي تهيئ لهم فرص الإثراء والتسيُد على الآخرين ، وما رافقها من بزوغ نجم بعض المتسلطين من رموز المجتمع الذي اخذوا بتلابيب الناس ليصعدوا على أكتافهم وهاماتهم ويحتلوا مركز القيادة في المجتمع وجعلوا من سلطتهم المالية سلاحاً يشترون به الذمم والولاءات ومقدّرات الناس .. وأمام هذا الواقع ، فإن النفوس الضعيفة والعقول المتدنية وأصحاب الأفكار المتأرجحة والقيم الهشّة اندفعوا الى بيع ولاءاتهم امام رنين المال والمصالح النفعية من دون التفكير بالعواقب ، فمنهم من حظي باللقمة الدسمة ومنهم من رضيَ بالفُتات ، فكانت الكارثة التي انشأت قيماً وبُدعاً جديدة سيطرت على عقول الناس حين تحول هذا الولاء الى مرضٍ من أخطر أمراض العصر وهو ( عبادة الفرد ) الذي سلب إرادتهم وعطّل عقولهم وحيّد ضمائرهم واختلط عليهم الحق بالباطل أمام ضبابية الرؤية التي أصابتهم .. فـــــالمزايا والمكاسب أصبحت هي المعيار في منح الولاء .. فبعد ان كان الإسلام هو دين السمع والطاعة لله ورسوله ، فإن السمع والطاعة لم تعد مقتصرة للخالق ، وإنما أصبحت للفرد الذي يمتلك سلطة المال وأصبح سيد الحياة الدنيا بصوابها وخطأها والقادر على إعطاء المال والجاه ، ولقد عميت عيون بعض الناس ببريق المال حتى أصبحوا يجتهدون ويفلسفون وينجّمون في تفسير غيبيات من يغدق عليهم بالمال وينزّهون تصرفات أولياء أمورهم ونعمهم في كل ما يصدر عنهم حتى لو أوقعهم ذلك مع المنافقين في الدرك الأسفل ، حين سيسألهم الله سبحانه يوم الحساب ( أين شركاؤكم؟) .
وبعد كل هذا ونحن في زمن التنوير نطوي صفحة ( عبادة الأوثان ) في ظـــل نور الإسلام ، يقع البعض في خطيئة ( عبادة الفرد ) .. { وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دونِ اللهِ أنداداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبِ الله والّذِينَ آمَنُواْ أشدُّ حُبّاً لله وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ } ( البقرة /165) .
وإذا ما نظرنا الى واقع حال البلد اليوم نرى بوضوح سفه المال الذي يمارسه البعض من سرّاق المال العام الذين أصبحوا من أصحاب المليارات بين ليلة وضحاها بعد أن كانوا يعتاشون على ما تتصدّق به الدول التي لجأوا إليها في الخارج أو بعض الموظفين الصغار أو باعة الأرصفة الذين أصبحوا في مراكز وظيفية رئاسية أو مواقع سياسية مؤثرة ممن بقيَ في الداخل ، وهؤلاء جميعهم أصبحوا من أصحاب النفوذ والقوة المؤثرة والضاغطة في المجتمع ، وتمكنوا من احتواء ضعاف النفوس ليجدوا فيهم من يتقبل الذل والهوان مقابل العطايا التي يتكرم بها سيدهم ليمنحوه القدسية والعبودية لتصل طاعتهم وولاءهم له عند حدود العبادة طالما انه رب أرزاقهم ، يدر عليهم بأموال السحت الحرام .
واذا كان اللصوص قد امتهنوا السرقة فلا أحد يعتب عليهم أو يلومهم لأنهم يدركون بأنهم باعوا آخرتهم بدنياهم ورضوا بمتاع الدنيا من السحت الذي رفعهم من الثرى الى الثريا وليكن الطوفان من بعدهم ، ولكن ما بال الناس الذين يصطفون للحصول على فتات عطاياهم من الأموال التي يعرفون جيداً من أين جاءت ، ويعلمون علم اليقين بأنها من دم وعرق جبين هذا الشعب المظلوم وهم جزءٌ منه فيصبحوا في خانة الظالمين ويحقُّ عليهم قول الله تعالى في كتابه العزيز { وَلا تَركَنُوا إلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمُ النّارُ } – هود / 113 .
وقد تكون عبادة الأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع أقل إيلاماً من عبادة رموز الشر من القتلة واللصوص الذين دمّروا البلاد وأذلّوا العباد ، وإن من أغمض عينيه عن الحق من أتبــــاعهم سيأتي يوم القيامة وقد حشره الله أعمى .
مقالات اخرى للكاتب