كلما سمعت كلمة (حوار) , تتردد على لسان السياسيين في خطبهم , أعرف بأن المشكلة قد تعضلت وتطورت , ووصلت إلى طريق مسدود, فهم يدركون ويؤمنون تماما بأنهم يكذبون, ويسوغون ما سيقدمون عليه من إجراءات تعسفية.
فالحوار بمهاراته ومفرداته وآلياته , غائب ومجهول ومنكور , في واقعنا العربي من أقصاه إلى أقصاه , فهل وجدتم قضية عربية واحدة تم حلها بالحوار , إبتداءً من أكبر قضية إلى أصغرها.
وبسبب ذلك فالمجتمع العربي مرتع خصب للإستبداد والتطرف والفئوية والتحزبية , ولا يمكنه أن يتجاوز القبلية والعشائرية , والإنتماء للفرد وتعظيمه وتأليهه , وأن يكون تابعا ومذعنا مُصادر الإرادة.
فالعرب لا يعرفون الحوار , بل أن هذه المفردة غريبة , ويحسبونها ضعفا وجبنا وتمريغا للرجولة في أوحال المذلة والهوان.
وبسبب فقدان الحوار , فلا يمكنهم إقامة أنظمة ديمقراطية حقيقية , لأن الديمقراطية جوهرها الحوار , والقبول بالرأي الآخر ,والتفاعل الإيجابي لتحقيق مصلحة العباد والبلاد.
والحوار في أصله , مرحلة متقدمة في النضج الحضاري الإنساني , تصل إليها الشعوب والمجتمعات عبر مسيرتها الطويلة , ويكون ثقافة مترسخة في أعماق الأجيال ونفوسهم وأفكارهم وأذواقهم وعقولهم , التي يستنهضون ما فيها من القدرات لتأكيد ثقافة وسلوك الحوار.
فثقافتنا وتربيتنا ليست ثقافة وتربية حوار.
ونحن مجتمعات تعلمنا عبر العصور أن نؤكد سلوك " سبق السيف العَذل"
وبرغم أن نبينا وقرآننا أعطيا أهمية كبيرة للحوار , ودوره الإيجابي في صناعة الحياة الأفضل.
"...وجادلهم بالتي هي أحسن....". النحل 125
وقد ترجمنا بسلوكنا الأحسن إلى القوة والهيمنة على الآخر من بيننا.
فنحن أكثر عدوانية على أخينا , وأشد قسوة , من أي عدو آخر عليه.
فعدونا لايفعل بنا مثلما نفعله نحن ببعضنا البعض.
فعدوانيتنا داخلية , وهي تعبير عن التدمير الذاتي والموضوعي.
وفي عصر نسميه بالديمقراطي , فأن هذه العدوانية قد إنفلتت واتخذت أبعادا مذهبية طائفية دينية , مما أججها ومنحها طاقات تدميرية هائلة.
ووسط هذا الجحيم اللاهب , تحول الحوار إلى سراب وخيال وضعف , وانطلقت قدرات الشرور , بعد أن رفعت شعارات دينية , وتخندقت خلف أجندات ذات طاقات وهمية عالية , لا يمكن للحوار أن يكون له مكانا فيها.
فهل سمعتم على مدى التأريخ أن أحزابا وفئات دينية تتحاور.
إنه المأزق الحضاري الفتاك الذي قفزنا إليه , فتورطنا في مصيرنا القاسي , وبملئ إرادتنا واختيارنا , وخضوعنا لآليات الإندثار والإنقراض والفناء.
فهل سنتعلم الحوار ونعاصر , أم سنبقى في خنادق التناحر والتصاغر؟!
*وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام. والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة, وقد حاوره.