كانت السماء تمطر قحطا والأيام تشتد نطحا , والجراح تزداد غورا والحكم يستحضر جورا. لكن الحياة يسودها الأمان برغم التداعيات والحرمان, والزمان بلا ألوان , والمكان يحتدم فيه البؤس والإمتهان , فيتدفق الويل من عيون الإنسان.
وفي لحظة كونية بلا أبعاد , إنسل الطير من عش الأعماق , وغاب في طيات الأكوان , مثقلا بالدموع والخيبات والأحزان.
ودار به دولاب العمر وأوجعه الغياب والنسيان.
وفي برهة من الوعي والإدراك الغامر , إستيقظ من غيبوبة الذوبان في بدن الرحيل والإغتراب , وأعلن ثورته الذاتية , فأحرق جدران الخوف واالتوجس , وطار إلى عشه يحمل ما عتّقه من الأشواق والأشجان.
غادر الطير عشه مهموما محبطا متحديا , مطعونا بآماله وطموحاته , ومعلنا التنازل عن حياته والمغامرة بوجوده , فكانت لحظات إنخلاعه من بدن عشه , من أرعب وأقسى وأمَرّ اللحظات , التي تتحول فيها الحياة إلى أوهى كينونة في الوجود.
لكنه وجد نفسه في عالم آخر , مقطوعا ثملا حيرانا , كأنه وُلد من رحم الذات الأبدية , مطلوقا في بيداء البشرية , يبحث عن مواضع جديدة لخطواته , التي تعودت السير في دروب المخاطر والعثرات المصيرية.
ويبدو أن ناعور التواصل والإنطلاق قد أخذه إلى حيث يأخذ أهله الجد الإجتهاد , فينغمر بطاقات التجدد والعطاء والإندماج بالذات الفاعلة في دائرة القوة والنماء.
وكان للطير أن يطير , إلى ذلك العش الذي تمتد فيه جذور كينونته على مسافة عمر الأزل , وتعلو دوحة ذاته في فضاءات الأبد.
فحلق بطائرة قطرية , إلى بلاد ذات تأثيرات دولية , وتبدو وكأنها قوية, ومنها أخذته طائرة أخرى إلى مدينة بغداد الأبية. وحالما إتخذ مقعده داهمته العبرات وأغرقته الدموع والتنهدات , وما عرف كيف يضبط مشاعره , فرائحة العش قد تولته وأخرجته من توحده ومادية تفاعلاته التي كبلته بأخلاق الجماد.
تلك الرائحة التي عبقت في المكان , وبعثت الأحاسيس من مكامنها وأطلقتها حرة فياضة حارة , لتشعره بقلبه وروحه وبأنه لا يزال هو الإنسان!
وكانت الأرض تبدو وكأنها ذات انتظام , والصورة ذات معالم حضارية , وحار بين ما يراه وما كان يراه فوق الأراضي الأوربية , فتساءل عن صحة ما يراه , أو أنه وهم وتصور قد غشاه , لكن الشوق راح يدغدغ خوالج روحه ويداعب أوتار نفسه المتيمة بنبع أصله وكيانه.
وغادر الطائرة ليخطو على أرض لم تطأها قدماه منذ أكثر من عقدين , وأخذ يحملق بالوجوه التي تملكت المكان , وانهالت الذكريات كالتيار الهادر , فطفح رأسه بالأعاصير والعواصف والرعود والأمطار , حتى صار يمشي مذهولا وكأنه في حلم غريب.
- أهلا يا دكتور!
قال موظف الجوازات , بعد أن حدّق بأوراق الجواز وأضاف:
- منذ متى لم تأتِ للعراق؟
إنحشرت الكلمات وسبقتها العبرات , التي انفلتت بطاقة عجيبة يصعب التحكم بها , وكادت دموع الموظف أن تسيل , وهو يرقب قسمات وجهٍ ذات إرتعاش غريب , فقد إغرورقت عيناه , وكأنه يقول للطير الولهان: يا لمأساتنا أجمعين!!
كأن المطار كما هو , حيث أمضينا بعضا من ليالي الصبا في أروقته , نرقب المسافرين ونحلم بأننا سنطير منه ذات يوم ما , لكن ذلك الحلم لم يتحقق , ولم يحلق الطير من مطار عشه , وإنما إنسل كالطريدة التي تريد النجاة بروحها من الضواري التي تتعقبها , أو إستعدت لأكلها.
فمسح يده بجدران عشه , وطار بريشه سعيدا بجناحيه , وهما يحملانه إلى حيث يستطيع التحليق والطيران.
حمل حقائبه الثكلى بالأفكار والتصورات والمخاوف والتوجسات , وهو يسعى صامتا وسط حشود المسافرين الذين يتزاحمون للصعود في حافلات , ستقلهم إلى ساحة عباس بن فرناس , عِبر طريق موحش يبعث رسائل توجس وقلق وفقدان أمان.
لكن جوانبه ذات لون أخضر , وتعمل فيها أيادي تسعى لإشاعة الجمال وتحسين وجه المدينة, التي أكلت قسماها المآسي والويلات والحروب وشرور البهتان.
شعر الطير بلذة الإقتراب من بطن عشه , وأخذ يتحسس معالمه ويبصرها بعيون أعماقه المحدقة في محيط الذكريات الجياشة الغامرة.
كان الناس من حوله ينتقدون ويتذمرون ويتهمون ويلعنون ويتألمون ويتحسرون ويشكون , وتنامى الحديث المترع بما هو سلبي وحزين.
ومصدر توجعاتهم أنهم قد شاهدوا الدنيا من حولهم , فتساءلوا عن أسرار وأسباب علتهم وعوقهم وقهرهم وسوء أحوالهم , فصاروا يتحسسون من السلوك الأعوج , الذي أبداه سائق الحافلة عندما أنكر وجود مكان للحقائب فيها , وأصر أن تكون مع الركاب , فتكدست فوق الكراسي مع الناس.
قال أحد الركاب: كيف لا يكون في الحافلة مكان للحقائب , هذا كذب وإفتراء!
ولم يجبه السائق.
وقال صاحبه: إنه الفساد , إنهم فاسدون!
وقال الذي يجلس بجانبي: ألا ترون كيف يتعاملون , إنها ألاعيب , لا أكثر!
وقال آخر: يا جماعة , الحمد لله على السلامة , ما هي إلا دقائق ونصل الساحة!
فعند بوابة المطار يتسابق إليك الشباب المتحمس لحمل الحقائب إلى الحافلة , مقابل بضعة آلاف من الدنانير التي لم تعهدها من قبل فتحتار بقيمة ما تعطي.
وتراهم يتشاجرون أمامك , ويأتيهم من يصيح بهم : شنو هاي على كيفكم!
لكنهم يزدحمون , وتنطلق كلمات ذات طعم آخر , وتستسلم لمن يتمسك بحقائبك وتذعن لأوامره , وتدلف إلى الحافلة وقد تكدست حقائبك على بعضها فوق الكراسي , وبين الناس الصاعدين إليها , والتي تم حشوها بالحقائب والبشر.
قال الشخص المجاور لي: أوف شيخلصها , ما نجوز , هاي حالنا!
فأجاب آخر: يمعود مستفادين , لو ما بيها فايدة ما تدوم على هذا المنوال , بس ولد الخايبات ماكليها!
.................
ومضت الحافلة , تمرق الطريق , والطير في صمت عميق , وترقب وشعور بالحسرة والألم , وفي رأسه ألف سؤال وسؤال والجواب محض سراب!
قال الطير: إنهم يكذبون , العراق بخير!
ومضى: إنهم يعملون ويزينون الشوارع ويستثمرون في اللون الأخضر , وهذه علامة حضارية رائعة!
فكل شيئ يبدو بمسحة جمالية!
وقال لنفسه: لا تتسرع في الأحكام , عليك أن تدخل المدينة وتتحسس الحياة.
وبين النظرات المتوجسة القاسية والقسمات الشاكية والأحاديث العاتية , والحافلة المتمايلة السكرانة , وسائقها الذي لا يرضيه أن يمضي بالناس مجانا إلى بر السلامة , وجدتنا في زحمة ساحة , وقد إعتلاها تمثال عباس بن فرناس بجناحيه الذين حلقا به في محطات الهذيان والسراب , وترجلنا وسط هجوم العشرات من الذين يريدون أخذنا إلى حيث البعيد.
- تفضل , التكسي حاضرة , وين تريد أوصلك!
- شكرا هناك من ينتظرني, إسمح لي قليلا!
- إستادنا إنت تؤمر , وين تريد تروح؟
- إستادنا إبّلاش إنوصلك!
- يا عزيزي دعني أبحث عن صاحبي!
- صار عيني ... صار لا تزعل!
..............
وفي خضم هذا العراك أنقذني صاحبي , فاستكانوا وابتعدوا , فوضعنا الحقائب في سيارته , ومضينا إلى حيث نرى العراق!
مقالات اخرى للكاتب