ظل هذا السؤال يدور في رأسي لأكثر من أسبوع كامل، هل تصدقون؟ والسبب، أن أحد الأصدقاء كتب في موقع التواصل الاجتماعي، الفيسبوك، متحدثاً عن رئيس وزراء دولة أوروبية قدم استقالته لأنه لم يعرف اجابة سؤال من قبل أحد الصحافيين عن سعر تذكرة القطار في رحلة داخلية. فكتبت من جهتي: لا أعتقد أن أي مسؤول بدولتنا يعرف الإجابة عن سؤال: كم صمونة بألف دينار؟
أما لماذا لا أعتقد أن المسؤولين العراقيين لا يعرفون إجابة هذا السؤال، البيسط للغاية، كما يفترض، فذلك لأنهم، أغلبهم حتى لا نقع في فخ التعميم، هم من أبناء طبقات فقيرة ومعدمة ومسحوقة، فتحت الولايات المتحدة لهم ابواب خزائن العراق الضخمة، فأصبحوا بين ليلة وضحاها، هم وعوائلهم وعشائرهم الأقربين، من أغنى أغنياء العالم، يمتلكون أخصب الأراضي على ضفاف الأنهر في العراق، ويمتلكون افخم العقارات في دول الجوار، وخاصة: الأردن، سوريا، وإيران وتركيا... ولهم في نخلة الامارات العربية الشهيرة العديد من السعفات، أما في أوربا فأملاكهم هناك تضخمت وتضخمت حتى بدأت تثير شكوك عيون القانون الأجنبي، المفتوحة دوماً لمراقبة الفساد بعكس عيون قانون شرقنا العدمي المغمضة دائماً في هذا الشأن!
الغنى بعد فقر، إذن، يعمي. بل، ويدفع صاحبه للتكبر على الفقراء، أبناء الطبقة التي أنحدر منها محدث النعمة بالأصل، فترى هذا الأخير يجتهد في نكران أصله، وتجاوزه. فهو لا يمرّ، بعد ثرائه المفاجئ، على المنطقة التي ظهر منها، ويتنكر لأبناء تلك المنطقة وكأنه لم يعرفهم في يوم، ويجتهد كثيراً في أن يجعل لسانه معوجاً، فلا يتذكر مستمعوه أن هذا اللسان يعود إلى تلك الجذور، ويمعن محدث النعمة، القميء هذا، في إنكار كل ما له صلة بالشعار الذي كان يجيد ترديده مثل الببغاء عندما كان فقيراً، يصبح الشعار جزءاً من أرشيف، الأرشيف الذي أوصله للثراء اليوم، لا أكثر ولا أقل.
ولأضرب لكم مثلاً: تعرفون جيداً أن الممسكين بالسلطة اليوم هم من أتباع الأحزاب الإسلامية، بشقيها السني والشيعي، وتعرفون أيضاً أن هذه الأحزاب، وأتباعها، يعلنون عداءهم ليل نهار، ومنذ سنوات طويلة، لواشنطن. وتعرفون ايضاً، أنهم وقفوا بالضد من استعدادات الولايات المتحدة لغزو العراق، والإطاحة بنظام صدام، هذا النظام الذي كان جماعة الأحزاب الإسلامية "يناضلون" من أجل الإطاحة به، ولكنهم تمنّعوا عندما قررت الولايات المتحدة إسقاطه. مع ذلك، تجدهم اليوم لا يشكرون أمريكا التي أوصلتهم للحكم، بل يقولون بمنتهى الغرور والصلف أنهم هم، وهم وحدهم من أسقط النظام السابق، فهل مرّ عليك نكران جميل أكبر من هذا؟
ولأن هؤلاء يرددون ليل نهار مقولات "إسلامية"، فإن لومهم، ونقدهم، أكثر من واجب، خاصة عندما يتغافلون، ويتناسون، شيئاً من أساسيات الفقراء، وما أكثرهم، في هذا البلد الغني. هل يمكن مثلاً أن تصدق أن رئيس الوزراء، أو نائبه، أو مسشاره، أو المقرب منه، أو حتى حارسه، لا يعرفون كم "صمونة" بالألف دينار العراقي، ومع ذلك يتحدثون ليل نهار عن الإسلام والنبوة وبيت النبوة؟ قل لي بربك، كيف أمسك نفسي أمام مثل هذا التناقض الذي تقشعرّ له الأبدان؟
ولكن، إذا كانت شلالات الدم هذه لا تجبر وزيراً أو غفيراً على الاستقالة، فهل سسيستقيل أحدهم لأنه لا يعرف كم "صمونة" بالألف دينار؟