بسم الله الرحمن الرحيم
دارسو التاريخ مدارس.. وللاختصار سنقف امام .. من يرى التاريخ كسلسلة احداث وروايات وقصص، وتعاقب سلطات ودول وملوك ومنجزات، وامراض وغزوات وحروب ومجاعات..ومن يرى التاريخ كظواهر لكل ظاهرة منطقها وهي التي تتولد في رحمها الاحداث التي تعكس مستوى الظاهرة وطبيعتها. فالمجتمع الاغريقي ظاهرة، والديمقراطية الرومانية ظاهرة، والرسالات السماوية ظاهرة، وزحف المغول ظاهرة، والاستكشافات الاوروبية ظاهرة، والثورة الصناعية ظاهرة، وسقوط الخلافة العثمانية ظاهرة، وتأسيس الدولة العبرية ظاهرة، والثورة التكنولوجية وثورة المعلومات ظاهرة، و14 تموز ظاهرة، وانتصار الثورة الاسلامية ظاهرة، وانهيار نظرية القطبين او القطب الواحد ظاهرة، وقس على ذلك.
لذلك عندما نقف اليوم عند ما يجري امامنا، فاننا نستطيع ان نراه ايضاً كمجرد تكرار احداث بمنطق ان التاريخ يعيد نفسه، ويمكن ان نراه ايضاً كظواهر بمنطق ان لا شيء مكرر حقيقة، بل ان مع كل قديم هناك اضافة تجعله جديداً. ويقينا ان الفارق بين الاثنين سيمثل فارقاً بين منهجين. فرؤية الاحداث دون ربطها بالظاهرة، او رؤية الظاهرة دون ربطها بالاحداث.. سيعني –عند الغرق بالاحداث- السقوط بنظرة جامدة لا تتلمس التطورات، او –عند الاستغراق بالظواهر- الانعزال عن الاحداث، مما يبعد المرء عن الواقعية. فالظواهر هي تراكم احداث، والاحداث تلد في رحم الظواهر.. فالارتباط بين الاثنين واقع، لكن دون الفصل بينهما، سنسقط في رؤية مشوشة للتاريخ والحاضر والمستقبل.
ما لم نشخص المرحلة التي نعيشها وطبيعة الظاهرة التي تحتويها سيصعب تفسير الاحداث.. بل ان الاحداث يجب ان تكون براهين يومية وواقعية على طبيعة هذه المرحلة.. ففي عراقنا اليوم هناك من ينحو الى مقارنة احداث الحاضر باحداث الماضي.. او مقارنة احداث ما يجري لدينا باحداث ما يجري لدى غيرنا. وسيعجز هؤلاء عن مسك حقيقة الاوضاع ومآلاتها الطبيعية. فما حصل في 2003 لم يكن مجرد سقوط نظام ووضع البلاد تحت الاحتلال، بل كان اساساً تحولاً جذرياً كافح من اجله العراقيون طويلاً وقدموا تضحيات غالية ليتحرروا من عقود، بل قرون طويلة، من المظالم والقيود. وكأي ظاهرة تكون الانطلاقة فوضوية، هائجة تدفعها قوة هائلة للخروج من اسرها وحبسها، لتجري في وضع جديد لا تعرف تماماً مستقراتها. فحطمت عملية التحرر حواجز وقيود اعتقدها البعض -في يوم ما- انها خالدة.. ومنحها قدرات ومواقع لم تحلم يوماً انها قادرة على تحقيقها، فارتبكت في ممارساتها لحرياتها وحقوقها وعلاقاتها الجديدة، وقامت احياناً بحماقات وصلت احياناً حد الظلم والعدوان.
سيكون العراق بخير ان شاء الله، رغم كل ما نشاهده امامنا من اخطاء واحباطات.. فالعراق قد وضع نفسه، او قدر له ان يتموضع في خط صاعد ليتفاعل مع احداث عصره.. سيرى هذه الحقيقة بكل وضوح من يعرف كيف يرى الظواهر ويفسرها.. وسيتخبط من لا تتجاوز عيناه رؤية الاحداث فلا يرى سوى الفوضى والغباء والجهل وسوء السلوك والموت والقتل. فمنطق التاريخ صارم.. وهو لا يعرف المجاملة، وانه حقيقة تجري خارج وعينا.. فان وعيناها استطعنا استثمارها والاستفادة منها.. وان جهلناها ستجري الامور لتفرض نفسها علينا، لكن بكلفة ووقت اكثر.
مقالات اخرى للكاتب