يعلم الجميع , ممن يعيش داخل أسوار الوطن العربي المحتل , ان اغلب هذه البلاد تحكم من قبل عساكر دكتاتوريين او ملوك وارثين لا يجيدون الديمقراطية وقتها ولا الثقافة وصيغها ولا حتى الديمقراطية وإشكالها , بل بينهم وبين الحكم الرشيد العادل وأصوله وإستراتيجيته بون شاسع وفجوة فجوة سحيقة كبعد سلطتهم عن الشرعية والدستورية وتلبية متطلبات المواطن العربي الغائص حتى رقبته تحت نير ظلمهم . ولو ان الأمر اقتضى على ذلك لكان هين , الا ان القادة العرب وحكامهم المهزومين داخليا وخارجيا , يحاول وان يظهروا أقنعة الصرامة ويلبسوا رداء الوقار ويتصنعوا السمو ويسعون إلى خلق شخصيات كاريزمية خاصة بهم . بحيث يبدو الواحد منهم وكأنه إمبراطور او ملك مقدس لا تطاله الظنون ولا خطرات العيون و لا لحظات الجفون , ولو لا ان الأمر فوق المعقول بدرجات عدة لا دعي بعضا من هؤلاء كذبا وزورا النبوة او ربما الإلوهية . ولكننا لا نلاحظ ان هناك رئيسا واحدا , بالمعنى الحقيقي للكلمة بين حكام العرب ممن خرق هذه القاعدة وكسر هذا الطوق وخرج عن اطر التعقيد المفتعل والزيف الكاذب , وظهر في مقابلاته التلفزيونية ومؤتمراته الصحفية بسيطا جدا يتكلم معك وكأنه صديق حميم او اخ مقرب تربطك معه علاقة أفقية لا عمودية أذا جاز لي استعمال مصطلحات سوسيولوجية في هذا المجال , بحيث يزيل بنفسه بينك وبينه اي حجاب او حاجز سيكولوجي ترسب لديك بفعل الصورة التقليدية للحكام العرب الأشاوس الجبابرة مع شعوبهم والجبناء إمام القوى الكبرى . هذا الشخص هو جلال طالباني الرئيس العراقي والذي يعد برأي المراقبين المنصفين الرئيس الوحيد في الوطن العربي . المنتخب بطريقة ديمقراطية في ممارسة انتخابية لم يشهد الوطن العربي بل والعالم اجمع نظيرها في الاستبسال والشجاعة العراقية ولا مثيلها بالإصرار والتفاني ومواجهة فلول الإرهاب التكفيري التي كانت ترفض الانتخابات وتهدد بقتل وتكفير كل من يتوجه لصناديق الاقتراع من اجل تحديد مصيره ومصير وطنه .
وفي الواقع ان بساطة وأريحية وتواضع الرئيس جلال الطالباني او مام جلال كما يحب البعض ان يسميه تعد غريبة بالنسبة للعربي عموما والعراقي على نحو الخصوص . وتعتبر غير مألوفة على الفضاء السياسي العربي الذي تنسج فيه أوهام وحكايات خرافية حول قادته ومن يحكموه تنفع ان تشكل الجزء الثاني من حكايات ألف ليلة وليلة .. البساطة التي تيمت عبها مام جلال لا تنبع . وهذه نقطة مهمة ومن الضروري التنبه عنها .. من سذاجة ذاتية او هزاله في الشخصية او ضعف في السلوك ولا حتى من قلة خبرة هذا السياسي المخضرم العارف أصول اللعبة الدبلوماسية وقواعد التعاملات السياسية , وهو الذي يشهد له القاضي والداني والعدو والصديق بأنه من أعمدة المعارضة العراقية التي جاهدت الدكتاتورية وناضلت لسنوات عديدة لعلها تفوق أعمار بعض الحكام . ان بساطة مام جلال تعود , في رأيي , الى محاولة كسر التقاليد السياسية المتهرئة وتحطيم الحواجز الرئاسية المزعومة التي خلفها قادة العرب والتي جعلت من رئيس الدولة العربية يظهر وكأنه اله او نبي او أمام معصوم لا ياتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه , فجلال طالباني يشير الى نفسه بقوله ( اغاتكم ) وهي كلمة عامية تقال في الجلسات الشعبية ويروي بنفسه اما عدسة الكاميرات وعبر الأثير وتحت مرأى ومسمع الملايين أخر نكتة سمعتها تتهكم بشخصه , والتي تقول مثلا بأنه قد سئل عن عدد صور القران فقال بان القران لا يحتوي صور أبدا وإنما كتابات وخطوط , بل ويردد البيت الشعري الساخر الذي يقول : فوك القهر والضيم ريسنا كردي ....
انا اعتقد ان لجلال الطالباني أهداف متعددة وغايات متنوعة في ظهوره على هذا النحو البسيط الذي يحس المواطن العراقي به اكثر من غيره لكونه عاش زمن الدكتاتوريات , وعصر الفاشيات التي امتصت حرية الإنسان وسحقت ذاته وأذابت قدراته , و أنكوى بها وتلظى بنارها , هذا الرئيس الإنسان مثل ما أنكوى بها ذاقها شعبه العراقي وطنيا والكردي قوميا ... هذا الرجل العراقي يحاول تأسيس او أعادة صياغة علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم او بين الرئيس والمرؤوس قائمة على البساطة والمرونة والكياسة في التعامل , ويريد إيصال رسالة الى المتلقي العراقي على الصعيد المحلي والعربي والصعيد الإقليمي والعالمي وعلى الصعيد الدولي على حد سواء , بأنه مجرد موظف في الحكومة وليس مقدسا او قائدا ضرورة كما صورتها لنا ورسمتها بالدم سلوكيات وشخصيات قادة عرب ....