نرجو ان لا يستهين احد بالازمة التي تمر بها البلاد.. العراق ليس بلداً مفلساً او ضعيفاً او لا يمتلك امكانيات عبور مثل هذه الازمات. لكن العراق تعطله اليوم الارادات المتضادة والمطالبات المبعثرة، والتي لو استطاعت اعادة تركيب وحدتها.. وتحديد اولوياتها لاستطاعت تحويل الازمة الراهنة الى انتصار تاريخي للبلاد.
يمكن ببساطة الكلام عن الاهداف كدحر "داعش"، وضرب الفساد، وتقليل النفقات، وايجاد فرص العمل للعاطلين، ومواجهة مشكلة النازحين، وتوفير مصادر مالية جديدة للبلاد، وانعاش الاقتصاد الوطني والقطاع الخاص، الخ. لكن البقاء عند تعداد الاهداف، والمبالغة بالوعود بدون اعادة اختيار اطارات العمل، ومناهجه واولواته والقوى الفاعلة المطلوب تعبئتها لانجاز المشروع، لن يعني سوى المراوحة. فاوضاع البلاد المالية الصعبة، وضغوطات الوضع الامني، والتجاذبات السياسية المختلفة، وسلسلة القوانين والتشريعات المعرقلة، والكثير من موروثات الحكومات السابقة تقف حجر عثرة امام تحقيق هذه الاهداف، كلها او بعضها. لذلك نقف في مفترق طرق.. ونحتاج الى قرارات شجاعة وواضحة.. تعرف جيداً كيف تستل رأس الخيط، الذي بمسكه يمكن ان نسحب كامل شلة الخيوط المتشابكة. فلا القدرات ولا الامكانيات ولا سلامة المنهج تسمح بالذهاب الى كل الخيارات.. وكمثال على الخيارات ومن اين نبدأ.. يطرح سؤال.. هل نحل اولاً كافة اشكالات الماضي لنتصدى للمستقبل.. ام نرتكز على الطاقات التي تفجرها قوى المستقبل للتقدم من جهة ولحل اشكالات الماضي؟
البقاء عند الماضي سيعني سياسياً البقاء عند اجواء المنازعات بين شركاء الوطن، او تكرار ذات المعادلات التي استُنفذت وقادت الى تراجع اداء القوى السياسية، بل اداء الدولة ككل.. وسيعني اقتصادياً ومالياً تطبيق التشريعات والتعليمات التي برهنت التجربة عن اضرارها واستنزافها قدراتنا البشرية والمادية طوال عقود طويلة.. وسيعني ادارياً استشراء الفساد والهدر والاستمرار بهدر الدينار والسعي وراء الفلس، وباخفاء الظواهر والنزف الكبير امام شخصنة القضايا والامور الشكلية.. وسيعني اجتماعياً استمرار سياسة المداهنة وكسب الاصوات حتى بالوسائل الرخيصة.. وسيعني امنياً اننا سنحارب "داعش" ومعارضي النظام السياسي الراهن بنفس الاساليب التي فشلت لحد الان في دحر الارهاب وضخ الحيوية في العملية السياسية.. وسيعني اقليمياً ودولياً تكرار نفس الشعارات التي عزلت العراق وجردته من الكثير من مصادر القوة والنفوذ والتأثير.
اما الذهاب الى المستقبل فسيعني توفير مصلحة للجميع بالمنافع المشتركة لتجاوز الخلافات الحالية.. وسيعني استثمار زخم البلاد وموقعها وتاريخها وطاقاتها البشرية وفي الموارد الطبيعية، فتسثمر كل الموجودات وليس النفط فقط لانطلاق البلاد.. سيعني مصارحة الشعب بالاوضاع الصعبة ومسؤوليته في معالجتها وتعبئته عبر التنازل له عن كل ما هو حق له، مقابل منع الفوضى والارتباك وخرق القانون والنظام.. سيعني ان ازالة كل العراقيل امام الانطلاق ومراكمة المنجزات هي هدف الاصلاح الاداري وادخال النظم الحديثة ومحاربة الفساد.. سيعني ان محاربة "داعش" اولوية وهي ما يوفر لنا اجواء التعبئة والوحدة، شرط ان لا نشوش عليها بامور دعائية او جانبية.. سيعني الخروج من اجواء الحروب والخلافات الاقليمية والدولية التي كلفت البلاد كثيراً للدخول في مرابحة مشتركة نكون فيها اول الفائزين.
فقوى الماضي وشعاراتها تهرأت وتفككت.. وللمستقبل قوى واهداف واولويات وطاقات، وعلينا تعبئتها وتحريكها.. وللمستقبل خطوط صاعدة واخرى نازلة علينا ان نكون مع الصاعدة.. عندها سنتمكن ليس من قلب مسارات المعادلة، بل ايضاً تفكيك وحل الكثير من مشاكل الماضي، وهو ما فعلته الامم التي استطاعت الخروج من ازمات مشابهة لازماتنا.
مقالات اخرى للكاتب