أعترف أولاً بأنني كنت أحد هؤلاء العميان قبل أن أرجع للعراق في العام 2008، ثم عام 2009 حيث بقيت في بغداد حتى أواخر العام 2011. أما لماذا فالجواب باختصار شديد لأنني كنت مراهقاً، فأصابني عمى، يمكن تسميته مجازاً بـ"العمى الايديولوجي".
والعمى الآيديولوجي هذا ملخّصه: أنك لا ترى عديد الجثث التي تتناثر في الشوارع، وتتكدّس في الطبّ العدلي، أو في المقابر الجماعية الناشئة، والمجهولة حالياً، لأنك مشغول بالفكرة التي تقول أن هذه الجثث تعود لإرهابيين، وفي أحيان، عندما تتصاعد عندك الإنسانية قليلاً، تقول أن هذه الجثث هي قربان الدولة الجديدة، دولة الديمقراطية، والحداثة والمدنية... أنها الدولة التي تنمو على أنقاض الديكتاتورية، والتي كنت، أنا المتحدث، أحاربها سرّاً وعلانية، في السنوات التي سبقت العام 2003. نعم، كلّ شيء يجوز، ويبرّر، ما دامت الديكتاتورية قد سقطت، وقد شفي غليلي بقتلة الأمس، فصاروا شذراً مذراً. اليوم فقط، يحقّ لي أن أتنفس الصعداء، وأن يرقد ضحايا الديكتاتورية في قبورهم بسلام. من أجل ذلك كلّه أقول: أن الجثث التي يتمّ العثور عليها اليوم هي قربان، هي أضاحي، هي لقتلى "التأثيرات الجانبية"، هي أسس بناء دولتنا الجديدة... هي...
وعندما تخلّصت من العمى الآيديولوجي، أو هكذا أعتقد، صرت أرى الجثث في كلّ مكان، بينما لا أجد سبباً لتكاثرها. سألت نفسي، مرات ومرات، من أين تأتي هذه الجثث؟ من هو القاتل؟ ولماذا يقتل البشر في العراق؟ صرت أتساءل: كيف يمكن أن نتعايش مع هذا العدد الكبير جداً من المقتولين في العراق؟ بأيّ عذر يمكننا مواجهة المقتولين حين نلتقي بهم ذات يوم قريب؟ كيف نبرّر صمتنا عن مقتلهم؟ وهل سيرضى ضحايا ما قبل العام 2003 عن الطريقة التي يقتل بها ضحايا ما بعد 2003؟ بل قل: لم نظل نقبل بالقتل؟ أو: من هم القتلى؟ ومن هو الذي يتشفّى بهؤلاء القتلى؟ وهل بيننا من يتشفّى أيضاً بهم؟ الخ.. ألخ...
ان ما يحدث في العراق من قتل عمد، فردي وجماعي، والذي لم يستثن منه أيّ شريحة من شرائح المجتمع، لا يحتمل أي تأويل، أو غضّ بصر، بل يدعو الفرحين بسقوط النظام السابق إلى إدانة ما يجري بكل قوة. كما أن هذا القتل، الباسل في انحطاطه، يدعو أصحاب العمى الآيديولوجي إلى الذهاب فوراً إلى الأطباء من أجل العلاج، وما الأطباء، في هذه الحالة، غير أمهات ثكلى، وأولاد يتموا، ونساء ترملن، وأخوة كسرت ظهورهم. عليهم أن يذهبوا إلى غير مكان في محيط بغداد وقد تحوّلت إلى مقابر جماعية ستمضي أعوام قبل أن يتم الإعلان الرسمي عنها، وستقوم حكومة قادمة بتأسيس يوم لضحايا تلك المقابر، ولكن تلك الحكومة قد تلجأ حينها لإلغاء اليوم المخصّص لضحايا مقابر ما قبل 2003 الجماعية!
بالنسبة لي، أشعر بألم يعتصرني وغصّة في القلب لهذا العدد من القتلى الذين يتساقطون في كلّ يوم، بل قل في كل ساعة، ومن يعتقد بأنني أبالغ، ليذهب إلى أقرب بوابة مواقع، أو دليل إخباري عراقي، ليعرف عدد الذين يقتلون بالأسلحة الكاتمة، من أطباء ومعلمين ومدرسين ورجال مرور ورياضيين، وعتالين... ليعرف عدد الذين يقتلون من شيوخ عشائر ورجال دين ومثقفين وصحافيين وصيادلة ونجارين... ليعرف عدد الذين يقتلون من منظفي شوارع وخبازين وخياطين وصيادين، ناهيك عن قتلى السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والعبوات والكواتم و4 ارهاب والظن والعشيرة والجريمة والتكفير!.. أبعد كل هذا تريدني أن أصمت، بل وأبرّر؟