بسم الله الرحمن الرحيم
غرقت بغداد مرة اخرى بسبب الامطار الغزيرة.. وعانت المناطق الفقيرة، بل عموم مناطق بغداد ومدن اخرى في المحافظات من تدفق المياه واختلاطها بمياه المجاري واجتياحها البيوت والشوارع، بحيث ترك الكثير من الناس منازلهم ومناطقهم وتكبدوا خسائر كبيرة في ممتلكاتهم. فمعدل الامطار السنوية في بغداد، كما تشير البيانات، هو 104 ملم/سنة.. في حين سقط حوالي 84 ملم في الموجة التي جاءت نهاية تشرين الثاني، وحوالي نصفها في الموجة الثانية في بداية هذا الشهر. ومجاري بغداد قديمة.. ولم يتم المباشرة بمشاريع جديدة الا خلال السنوات الماضية بعد اهمال لعقود طويلة.. وفي الحقيقة فانه حتى مع انجاز هذه المشاريع فان بغداد كانت ستعاني، ولكن باقل مما عانته، لان طاقة تصريف المجاري الحالية قد صممت لكميات امطار اقل مما سقط خلال هذه الفترة. وان الكثير من اللوم الذي وجه لامينة بغداد غير منصف. فالسيدة لم تتول منصبها سوى قبل اشهر قليلة.. ومشكلة مياه بغداد مشكلة تراكمت عبر العقود ولم توضع لها الحلول المناسبة من قبل المسؤولين، كما ان الكثير من السلوك الاهلي -المبرر وغير المبرر- يعقد ويعمق المشكلة، كرمي النفايات، وطرق البناء العشوائية والتجاوز على المجاري. كما لا يساعد على حلها عمل الجهات الرسمية، كل في اختصاصه، بدون تنسيق مع الاطراف الاخرى.. فالشوارع باتت اعلى بكثير من مستوى البيوت، بسبب اعمال التعبيد والارصفة.. بل ان الشوارع نفسها، بدل ان تساعد بتصريف المياه بدراسة واستغلال انحداراتها نحو الانهار او نحو خزانات اصطناعية، لاستخدامها في اوقات الشحة، باتت هي نفسها بركاً حقيقية للمياه. فالمياه تقتل مدننا، عندما تأتي بغزارة في شتاء بعض السنين.. وتموت مدننا عطشاً في الصيف. واننا جميعاً يجب ان نشعر بالمسؤولية.. مسؤولون سابقون وحاليون.. اجيال سابقة وحالية.. لا ان يتنصل كل منا ليحمل الاخر المسؤولية.
بلحاظ ذلك ورغم الحقائق والمفارقات، سيكون من المفيد اجراء مقارنة بين الامطار والنفط. صحيح ان كلاهما نعمة من السماء.. وصحيح ان العراق يستطيع ان يستثمر كلاهما ليرتقي بنفسه لاعلى المراتب. لكن عندما يتحول النفط الى مجرد اموال سهلة تأتي من الخارج، لتبني دولة ريعية استهلاكية تسيء ادارة الامور، همها الهيمنة على المواقع عبر حزب وفرد واحد، او عبر المحاصصات والاقطاعات الادارية والمافيات والفساد، فتحتكر المصالح وتقف حجر عثرة امام القطاعات الحقيقية للاقتصاد الوطني، فتعطل بدورها حركة المجتمع ودورته وفعالياته، وتضخ فيه عوامل الفساد والكسل والترهل، عندها يتحول النفط الى نقمة، وهو ما يتطلب وعياً جمعياً كاملاً، ووعياً تشريعياً عميقاً، وفهماً مالياً واقتصادياً يختلف كليا عن المباني الحالية المعجونة عجناً في تفكيرنا وثقافاتنا وادارياتنا، ليتجاوز النفط دوره الحالي في تغطية موازنات الدولة، خصوصاً موازناتها التشغيلية، ليلعب دوره الاساس في الاعمار والبناء.. اما الامطار فهي نعمة ايضاً، وقد تتسبب بكوارث عظيمة كما حصل مؤخراً في بغداد، ومناطق اخرى، ان لم نتهيء لاستقبالها والاستفادة منها.. لكن الامطار خلاف النفط لا تبني دولة ريعية.. بل تضع الناس، كل الناس، امام مسؤولياتهم.. فتسقي اراضي العراق كلها، وتحول صحاريه الى مراع، وتخفف العواصف الرملية، وتحسن نوعية المياه، وترفع مناسيب المياه الجوفية وفي الخزانات.. اي تتولى بكفاءة وباقل التكاليف ما كان علينا القيام به لاصلاح الكثير من اوضاعنا.
نتمنى ان توفق البلاد لاستثمار النفط والامطار.. لكننا لو خيرنا بينهما.. فانني ساكون اول من يختار الامطار.
مقالات اخرى للكاتب