أرخنة تأريخ المدن مهمة شاقة يتحملها البعض النادر من صناع الحلم والتقصي والانصاف ، وحتى تكتب عن تأريخ مدينة عليك أن تعرف روحها اولا ، والمدن التي تصبح تواريخها الغازا واسرار ومجهول هي المدن العانس التي لاتصلح لتربي اجيالها ، لهذا فأن المؤرخ في سجلات مدينته أنما هو سادن الزمن فيها .الناصرية مدينة بنيت قبل 146 سنة ، وهذا التاريخ ليس موغل في القدم ولكن على اديم بيوت الطين التي اوشم على جدرانها ناصر السعدون بطغراء توقيعه الممهور بالحبر الازرق الذي اهداه اليه بمحبرته الوالي العثماني مدحت باشا صاحب فرمان تأسيس المدينة لتكون حاضرة مهيبة تعيش اور واحدة من اعرق مدن التاريخ فأعطت للناصرية عطرها السومري.ابناء الناصرية وثقوا لتأريخ مدينتهم ، القصص ، والحوادث ، والقصائد ، لكني اشيد بأثنين صنعا في كتاب تاريخ المدينة هاجس الحب والتقصي .الأول هو المؤرخ الكبير المحامي شاكر الغرباوي رحمه الله الذي كتبت عنه قبل سنوات مقالا في هذا الاتجاه ولنا معه مقالاً آخراً للمديح فهو صاحب فضل على الناصرية ليس لانه اول من اصدر مجلة البطحاء في اواسط الاربعينيات القرن الماضي لتوثق حلم المدينة بل لانه كتب فيها وعنها كثيرا منذ الاسس الاولى للموحية وأبي جداحة وحتى وفاته.
الثاني الذي اثار انتباهي بموضوعيته ودقته وحرصه على ترصين ثقافته روحا وكتابة هو صديقي وظل الذكريات القديمة منذ ان اعرني كتابا في صباي لاقرا وهو الاستاذ حسن علي خلف ، الذاكرة الجميلة الممتعة التي تتكلم بموضوعية ووضوح وربما مازلت اذكر محاضراته لنا وهو يقف امام محلهم لتجارة الفاكهة في ركن السوق العصري تماما امام محل المرحوم عبد ابو الكبة وكنت اتواجد دوما مع صديقي الطيب جواد جليل ناهي في محل والده الفكهاني الحاج جليل ناهي امام المحل الذي يتواجد فيه ابي حيدر دائما قبل ان يقرر ان يهجر الناصرية الى كركوك ثم يعود اليها ، وهو يعلن ان الهجرة عن مدينة نعشق تواريخها يعد انتحارا.في تلك المساءات كان حسن علي خلف شابا وموظفا في الدولة وكنا نحن تلاميذ متوسطة يسكننا حماس التأريخ السومري ومن كلماته الاولى شعرنا بذاكرة المدينة تنشيء فينا كما تنشيء الوردة في قمصان الربيع.
كبرنا ، وزاملت ابو حيدر بمسلك الوظيفة في تربية ذي قار حيث فضل ان يحيل نفسه على التقاعد مبكرا ويأوي الى مجلداته ويتفنن في ادراك شجرة النسب القبلي لمجتمع الناصرية اضافة الى تخصصه في دراسة عالم الاهوار وله مع هذا العالم الساحر اكثر من كتاب مطبوع.
غير ان ولعه الروحي الاكبر هو مع تأريخ مدينته عندما يؤسس لها صيرورة وجود توثقه الارقام والاسماء والحكايات والتحليل وهو بتلك الفطنة والقراءة والتأليف والمحاضرات فهو الابن الشرعي للذاكرة الرائعة التي تركها لنا المرحوم شاكر الغراوي ، وربما معه بعض من يشتغل على ذات المجسات لكنني لا اعرفهم مع الاسف.
حسن علي خلف سادن روزنامات المدينة ، والانسان المتشبع بثقافة الكتب تلك التي تعني بالتاريخ العربي والعالمي الى العيون الثرية لاداب الامة وتواريخ شعراؤها وفلاسفتها ومبدعيها . كما اني اسمع واقرا له نوافذ تفكر برؤى المحلل السياسي ــ الاجتماعي . لكن ولعه بالكتابة التاريخية يبقى هو الاهم بالنسبة لديه.
اذن هذا الرجل بهندامه العالي المؤرخ ( حسن علي خلف )، واعتكافه في بيته او مكتبته التي اسسها في شارع الجمهورية ويديرها الان ولده المثقف مصطفى يمثل واحد من صور الابداع السومري في الجهة التي نحتاجها لنعرف الكثير من خفايا واسرار تلك المدينة العريقة التي اسمها الناصرية
مقالات اخرى للكاتب