العراق تايمز: كتب السيد عصام احميدان الادريسي..
قال الله تعالى " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " "سورة النصر" .
تشير الآية الكريمة إلى حدث تاريخي بارز وهو حدث فتح مكة وانتصار الخط الرسالي بقيادة رسول الله ص على الخط الاستكباري القرشي ، كما تشير الآية إلى ذلك التحول السياسي والعسكري في موازين القوى ، وما لهذا التحول من انعكاسات ثقافية جلية ، تمثلت في "الدخول في دين الله أفواجا" أي أن هناك تحولا ثقافيا كبيرا نجم عن تبدلات سياسية وميدانية في موازين القوى .
إننا نفهم من خلال ذلك أيضا أن الفعل السياسي-العسكري في مدرسة الخط الرسالي ما هو إلا أداة لصنع التحول الثقافي والحضاري الكبيرين ..فلا موضوعية للعمل السياسي خارج إطار البعد العقائدي وامتداداته الثقافية والحضارية .
لاشك أن هناك مشروعية لطرح تساؤل آخر وهو : إن كان البعد الغائي للخط الرسالي ثقافي وحضاري في حين يمثل الفعل السياسي مجرد أداة لبلوغ غايات ثقافية محددة ، تتمثل في تغيير ما بالنفس وتغيير ما بالقوم ، وإخضاع النسق الإنساني لحالة العبودية والسلطان الإلهي ..فإننا نجد أن المرحلة الأولى من مراحل الدعوة إلى الله كانت مرحلة ثقافية أيضا ، فالثقافة في الخط الرسالي النبوي مشروع استراتيجي ، لا مجرد نزوع تكتيكي يحترق ضمن الخيارات السياسية للفعل النبوي ..فقد رأينا كيف أن الحركة النبوية قد كثفت في انطلاقتها من عملية الاستقطاب النوعي ، وأيضا عمل الوحي على وضع أطر فكرية وتربوية صارمة لبناة نواة المشروع الإسلامي من خلال إعداد الطليعة الرسالية "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأة وأقوم قيلا" "سورة المزمل " .
إنه لو كان الفعل الثقافي هو غاية الفعل العمل الرسالي ، فإننا حتما سنجد الحركة الثقافية تتوزع على طول خط السير في الناس وبهم إلى الله ، ولعل الآية الكريمة " يدخلون في دين الله أفواجا .." تكشف عن عمق هذا المعنى ، حيث أن المرحلة التي تلت التحول السياسي "فتح مكة" كانت بدورها مقدمة لتحول ثقافي أكبر دل عليه دخول الناس في دين الله أفواجا ..مما يعني أن هناك قيدا تمييزيا لمرحلتين من مراحل العمل الرسالي :
المرحلة الأولى : مرحلة الفعل الثقافي المحدود وبناة النواة الرسالية " وتنطلق من بداية الدعوة الإسلامية إلى فتح مكة " .
المرحلة الثانية : مرحلة الفعل الثقافي المكثف وبناء الجماهير " وتنطلق من مرحلة فتح مكة ولا تنتهي عند حد " .
إن فتح مكة بهذا اللحاظ شكل حدا فاصلا بين مرحلتين من مراحل الخط الرسالي ، وهذا الحد الفاصل أو فتح مكة مثل قيمة البعد السياسي في الفعل الرسالي بوصفه أداة تحويل كلي مجتمعي نحو آفاق الرسالة الإلهية ..من هنا ، يمكننا القول أن الخلفية الثقافية والحضارية هي منطلق العمل الرسالي وآفاقه في آن واحد ، وهو اختيار استراتيجي لا نزعة تكتيكية .
لقد أخطأت العديد من التجارب الحركية الإسلامية عندما جعلت من المسألة الثقافية حالة مرحلية ضمن استراتيجية التغيير ، لتنكمش بذلك الفاعلية الثقافية للإسلاميين وسط الجمهور مباشرة بعد التحول إلى الممارسة السياسية ، ليأخذ العمل السياسي موقع العمل الثقافي .
إن هذا الفهم الحركي للمرحلية ولجوهر العملية الثقافية ميكانيكي جامد لا يستقيم ، وهو بخلاف منطلقات الخط الرسالي وتجربة الحركة النبوية بوصفها حركة رشد وتميز تستند لدعامة الوحي الإلهي والتسديد الرباني .
إن الفهم الحركي الصحيح هو ذلك الفهم الذي يمحور المسألة الثقافية على امتداد حركة المشروع الرسالي ، غير أن تطوير ذلك البعد الثقافي إنما يتم من خلال توظيف مختلف الوسائل والإمكانيات ، وهذا ما يمكن تسميته ب "المنطق الديناميكي للتغيير" في مقابل " المنطق الميكانيكي للتغيير" .
انطلاقا مما سبق ، قد تثار بعض الأسئلة من قبيل : إن فتح مكة مثل مرحلة تحويل دفعي مجتمعي نحو الإسلام ، في حين كانت المرحلة التي سبقت فتح مكة مرحلة تحويل نوعي طليعي نحو الإسلام ، فهل يجب على العاملين للإسلام أن ينطلقوا في مرحلة التأسيس الحركي من بناء الذات الطليعية أم من بناء الجماهير ؟
للإجابة على هذا السؤال ، لابد من تحديد موقف نظري وآخر عملي من تجربة الحركة النبوية ، فهل تمثل خلاصات تلك التجربة مسلمات عملية في خطوات العاملين للإسلام في طريق التغيير ؟ أم أنها خلاصات مرتبطة بسياق ذاتي وموضوعي محدد بكثير من الخصوصيات ؟
إننا لا نتوفر على دليل شرعي قطعي يوجب الأخذ بتفاصيل الخطة التغييرية التي قامت على أساسها الحركة النبوية في هدم الواقع الجاهلي وبناء أسس النظام الإسلامي الجديد ، كما أن سياقات التجربة الرسالية للحركة النبوية لم تخرج عن إطار محكوم بخصوصيات شخصية ، زمانية ، مكانية وأحوالية ، لتكون بذلك السمة الواقعية أهم سمة في الحركة النبوية بعد السمة العقائدية-الرسالية تميز الفعل النبوي .
مع كل ذلك ، نقول إننا نملك من داخل فضاءات التجربة الرسالية النبوية ذاتها أن نعمق رؤية فكرية للبناء الطليعي الجماهيري في آن واحد ، حيث أن الأمر بالمجاهدة الذاتية وتزكية النفس وتطهيرها جاء في نفس السياق الزمني للأمر الإلهي بالدعوة و الإنذار ، وإن اقتضت الواقعية الرسالية البناء على المعطيات الاجتماعية الخاصة بمنطقة شبه الجزيرة العربية ، فجاء الأمر بالإنذار ضمن حدود دائرة ضيقة ألا وهي دائرة "الأقارب في العشيرة" لقوله تعالى " وأنذر عشيرتك الأقربين " لأجل ضمان سلامة التأسيس من مخاطر الإجهاض المبكر للفعل الرسالي النبوي .
إننا نفهم من ثنائية الإعداد الطليعي والإنذار الجماهيري ولو ضمن إطار محدود وآمن ، أن عملية البناء الرسالي هي عملية متوازية ومندمجة ، يترافق فيها خط الطليعة بخط الجمهور ، لتكون القاعدة الفكرية الحركية في هذا المقام " بناء الذات من خلال بناء الجماهير ، وبناء الجماهير من خلال بناء الذات " ، كي لا تكون عملية البناء الذاتي نظرية ومنعزلة عن محيطها الاجتماعي ، وليكون بناء الجماهير بدوره عنصرا من عناصر البرنامج الذاتي في تطوير القدرات الطليعية .
إننا نعلم أيضا أن الطليعة الرسالية لا تتحرك وحدها في الساحة ، وأن الآخر المتربص بها قد يفكر في إدخالها مرحلة أرقى لإجهاض مشروعها أو لكي تضطر لمغادرة الساحة الثقافية والدخول المبكر للفعل السياسي دون تقديم مقدمات وتمهيد أصول ..مما يحتم ضرورة التدقيق في طبيعة المادة الثقافية في عملية البناء الذاتي وألا تكون نظرية صرفة أو منعزلة عن الجمهور والمرحلة السياسية ولو من باب الإطلالة على الواقع السياسي من النوافذ الثقافية ، كي لا تحدث هناك فجوة بين بناء الذات الطليعية وبناء الجماهير ، وأيضا بين المرحلة الثقافية المحدودة والمرحلة السياسية بوصفها أداة لإحداث التغيير المطلوب .
خلاصة القول ، إن صياغة البرنامج الثقافي الرسالي ليس بالعملية السهلة ، ويلزم أن تستجمع المادة الثقافية كل مستويات البناء ، سواء على مستوى الذات الطليعية : " تربويا وفكريا ومنهجيا " ، أو في العلاقة بين الذات والجمهور " ثقافة تعانق واقع أهل الأرض لترتقي بهم إلى آفاق العلا " أي ثقافة لا تستغرق في الجانب النظري أو السلوكي المنعزل عن الناس ، بل ثقافة تكون أساسا للحركة من أجل الإنسان والإسلام ..وأيضا أن تكون المرحلة الثقافية غير منفصلة عن الواقع السياسي ، بحيث لو دفعك الآخر دفعا للدخول إلى المرحلة السياسية قبل استكمال شروط المرحلة الثقافية فعليك أن تكون جاهزا لذلك التحول ، وآلية ذلك أن يكون الفعل الثقافي قريبا من واقع وهموم الناس لا أن يكون تجريديا ، وأيضا أن يتم توزيع قسم من الرساليين على بعض المواقع السياسية لاكتساب الخبرة المطلوبة وليشكلوا في المرحلة السياسية كوادر رسالية جاهزة للحركة ومزودة بالخبرة العملية .
من هنا ، يتجلى مدى التشابك الحاصل بين الثقافي والسياسي في حركية الخط الرسالي ، بحيث لا يجب الفصل بينهما ، وإن كان المطلوب هو الحفاظ على سلامة الخطة التغييرية وفق مبدأ التدرج لكن على أن يكون ديناميكيا بحيث تفتحك كل حلقة منه على الأخرى لا أن تكون تلك الحلقات مفككة ومعزولة عن بعضها البعض وهو ما يمكن أن يطلق عليه اسم " الفهم الميكانيكي للتغيير" في مقابل "الفهم الديناميكي للتغيير" ..لكن ما ينبغي التأكيد عليه دوما هو أن العملية السياسية لا ينبغي أن تكون هي الغاية بل هي الهدف لأن الغاية تظل ثقافية وهي "الدخول في دين الله أفواجا " وتحقيق رضوان الله ، بعد أن تكون المنطلقات الرسالية أيضا ثقافية وهي بناء الطليعة الرسالية والجمهور المؤمن في مرحلة الاستضعاف ..فالمنطلقات والغايات ثقافية في الخط الرسالي بينما العملية السياسية ما هي إلا أداة تحويلية من مرحلة العمل الثقافي الطليعي إلى مرحلة العمل الثقافي الجماهيري .
من هنا ، فإن "المعالم الرسالية للحركة الثقافية " ستتناول الإطارين النظري والعملي للحركة الثقافية الرسالية من خلال :
الفصل الأول : المرتكزات النظرية للحركة الثقافية الرسالية :
المبحث الأول : تأصيل وتحريك العقيدة والمفاهيم الرسالية .
المبحث الثاني : تأصيل المنهج الرسالي .
الفصل الثاني : الوسائل العملية للحركة الثقافية الرسالية :
المبحث الأول : الإسلام الشعبي قاعدة لإعادة بناء الإسلام الحركي :
الفرع الأول : الإسلام الشعبي .
الفرع الثاني : الإسلام الحركي .
المبحث الثاني : بناء الذات من خلال بناء الجماهير وبناء الجماهير من خلال بناء الذات.
الفرع الأول : بناء الذات (تأهيل الذات ثقافيا وتربويا ومنهجيا) .
الفرع الثاني : بناء الجماهير (الحركة الثقافية مدخل لبناء الحركة السياسية) .
الفصل الأول :
المرتكزات النظرية للحركة الثقافية الرسالية :
إن تغيير المحتوى الخارجي للأمة أو لجماعة ما مشروط بتغيير المحتوى الداخلي لتلك الأمة أو الجماعة ، مصداقا لقوله تعالى ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ( سورة الرعد ، آية 11 ) وقد عبر الله تعالى عن التغيير الداخلي بصيغة الجمع (ما بأنفسهم ) وهو مختلف في معناه عن ( تغيير كل فرد ما بنفسه ) لأن تغيير ما بالأنفس يعني إحداث ثورة فكرية وروحية وسلوكية لدى جماعة ما ( قوم ) .
من هنا فبناء الطليعة الرسالية المنتصرة بإذن الله على عدوها ، لا يمكنها أن تحقق ذلك النصر إلا إن هي انتصرت في معركة الذات ونجحت في تغيير نمط تفكيرها وسلوكها بشكل متطابق مع المراد الرسالي لها ، إذ قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " ( سورة محمد ، آية 7 ) ، وقال أيضا ( ولينصرن الله من ينصره ) ( سورة الحج ، آية 40 ) ، كما أن القوة الإيمانية لجماعة ما شرط أساسي في تحقق موعود الله تعالى بالنصر لقوله تعالى ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) ( سورة الروم ، آية 47 ) ، ذلك ما يدفعنا إلى البحث في المرتكزات النظرية للطليعة الرسالية على مستوى العقيدة والمفاهيم الرسالية ( المبحث الأول ) وأيضا على مستوى المنهج الرسالي ( المبحث الثاني ) .
المبحث الأول : تأصيل وتحريك العقيدة والمفاهيم الرسالية :
إن العقيدة الإسلامية ليست مبادئ فلسفية تجريدية ولا شعارات منفصلة عن الواقع ، فالقرآن الكريم هو كتاب حركة وحياة وليس كتاب تجريد ، كما أن القيادة الرسالية المتثملة في الأنبياء والأولياء كانت تمثل التجسيد الآدمي المادي للرسالة الإلهية ، حتى وصف النبي صلى الله عليه وآله بأنه كان ( قرآنا يمشي ) ، كما أن الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه وصف حركية القرآن من خلال علاقة القرآن بالزمان قائلا : ( الزمان يفسر القرآن ) أو كقوله ( إن القرآن يجري كما يجري الليل والنهار ..) ولعل هذا ما جعل المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله رض يعتبر أن ( الحركيين هم الأقدر على فهم القرآن ) ، فلا يفهم كتاب الحركة إلا من كان حركيا في فهمه للدين والواقع وفي سيره نحو الله تعالى .
من هذا المنطلق فإن المطلوب من الرسالي أن يتدبر القرآن بمنطق الاستكشاف للوصول إلى عمق معانيه وليس بمنطق الهيمنة عليه بقراءات خارجية أو أحكام مسبقة من شأنها أن تضر بعملية القراءة والفهم للنص الديني ..لذلك فإن المفهوم الأصح هو " التأصيل" وليس " التجديد " أو " التحديث" ، حيث ليس المطلوب الإتيان بشيء جديد أو حديث وترك القديم ، بل المطلوب إعمال النظر لاستكشاف مراد المتكلم وهو "الله" في مقام القرآن والنبي في مقام السنة النبوية ..
"تأصيل العقيدة" تعني إرجاع المعتقد الديني إلى أصوله الشرعية والعقلية القطعية وهي القرآن والسنة والعقل وهو ما يقضي بإبعاد العقيدة عن كل مرجعية غير شرعية لكونها فاقدة للحجية ، وأيضا لابد من أن يستوفي المعتقد شرط "القطعية" إذ لا يعتد بالظن في مجال العقيدة .
انطلاقا مما سبق فإن الطريق المعتبر في بناء المعتقد لا يكون إلا خلاصة :
المحكم من القرآن الكريم : لأن المتشابه وإن كان قطعي الصدور لعصمة القرآن الكريم ، غير أنه ظني الدلالة لاحتماله أكثر من معنى .
المتواتر من الحديث : لأن الحديث وإن كان صحيحا فهو خبر آحاد لا يفيد إلا الظن بالصدور ، والعقيدة لا يكفي فيها الظن ، أما المتواتر فهو المسلك الوحيد روائيا لتأسيس القطع واليقين بالصدور .
إن كثيرا من الخلافات الكلامية بين المسلمين إنما دارت رحاها في الأعم الأغلب حول المظنونات والمشكوكات والمتوهمات ، فكثر الجدل بين المتكلمين حول ما تشابه من آيات القرآن وما روي من أخبار هنا وهناك بطرق لا ترقى إلى القطع بصحتها ..بل إن كثيرا من العلماء يسلم منهجيا بقواعد البحث العقائدي وقيامه حصريا على القطع واليقين ، لكن قلة النصوص القطعية تدفعهم دفعا إلى الخوض في المظنونات وتنزيلها منزلة اليقينيات وترتيب الأثر عليها ، وهو ما يعكس تخبطا حقيقيا بين المنهج النظري والصياغة النظرية لذلك المنهج ( يتبع ) .