يختلف احد على ان كافة المجتمعات في الشرق والغرب تحتوي على قدر معين من الفساد . اذ لا يوجد على وجه البسيطة ذلك " المجتمع الفاضل " الذي يخلو تماما من الفساد والمفسدين . ولكن القضية التي تشغل بال المجتمع العراقي هذه الأيام , ليست بالتحديد وجود قدرٍ ما من الفساد في معاملاتنا اليومية بل حجم الفساد واتساع دائرته وتشابك حلقات وترابط آلياته بدرجة لم تسبق لها مثيل من قبل , مما يهدد مسيرة التنمية ومستقبل مجتمعنا العراقي في الصميم . ولعل ما أفصحت عنه بعض وقائع قضايا الفساد المالي والاداري خلال السنوات الأخيرة في العديد من الدوائر والمؤسسات الحكومية , يدل على مدى تغلغل قيم الفساد وممارساته في كافة نواحي حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية .
وما يهمنا التأكيد عليه في هذه الورقة المختصرة هو ان الفساد له آلياته وإثارة الانتشارية ومضاعفاته التي تؤثر في نسيج المجتمع العراقي وسلوكيات الأفراد وطريقة أداء الاقتصاد , وتعيد صياغة " نظام القيم "
وضع البنك الدولي تعريفا للأنشطة التي تندرج تحت تعريف الفساد على النحو التالي : " إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص , فالفساد يحدث عادةٍ عندما يقوم موظف بقبول او طلب او ابتزاز رشوة لتسهيل عقد او اجراء طرح لمناقصة عامة , كما يتم عندما يقوم وكلاء او وسطاء لشركات او إعمال خاصة بتقديم رشاوى للاستفادة من سياسات او اجراءات عامة للتغلب على منافسين , وتحقيق ارباح خارج اطار القوانين المرعبة . كما يمكن للفساد ان يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة دون اللجوء الى الرشوة وذلك بتعيين الأقارب او سرقة اموال الدولة مباشرة " .
ويشير هذا التعريف الى آليتين رئيسيتين من آليات الفساد :
1- إلية دفع الرشوة والعمولة المباشرة الى الموظفين والمسئولين في الحكومة , وفي القطاعين العام والخاص لتسهيل عقد الصفقات , وتسهيل الأمور لرجال الأعمال والشركات الأجنبية . وهو ما يسمى تاريخيا في العراق ب " البرطيل " .
2- وضع اليد على " المال العام " والحصول على مواقع متقدمة للأبناء والأصهار والأقارب في الجهاز الوظيفي , وفي قطاع الأعمال العام والخاص .
وهذا النوع من الفساد يمكن تسميته ب " الفساد الصغير " وهو مختلف تماما عما يمكن تسميته ب " الفساد الكبير " المرتبط بالصفقات الكبرى في عالم المقاولات , تجارة السلاح , والحصول على التوكيلات التجارية للشركات الدولية الكبرى المتعددة الجنسية . وما الى ذلك من ممارسات . ويحدث مثل هذا " الفساد الكبير " عادة على المستويين السياسي والبيروقراطي , مع ملاحظة ان الاول يمكن ان يكون مستقلاً , بدرجة او بأخرى , عن الثاني , او يمكن ان تكون بينهما درجة عالية من التداخل و التشابك . اذ عادة ما يرتبط " الفساد السياسي " بالفساد المالي حين تتحول الوظائف البيروقراطية العليا الى ادوات , للاثراء الشخصي المتصاعد .
وقديما تحدث ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن " الجاه المفيد للمال " وكأنه يقرا واقع مجتمعنا المعاصر , اذ يرى ابن خلدون ان المال تابع للجاه والسلطة , وليس العكس , كما حدث في بعض البلدان الغربية اثناء عملية التطور الرأسمالي . واذا كان البعض يكونون الثروات , ويحققون التراكم المالي من خلال " التجارة " , فقد اشار ابن خلدون الى الاحوال الكثيرة التي تختلط فيها " التجارة " " بالإمارة " . اذ يكتسب البعض , من خلال المنصب والنفوذ الإداري , في اعلى المراتب من مراتب جهاز الدولة أوضاعا ً تسمح لهم بالحصول على المغانم المالية وتكوين الثروات السريعة , وتكون عادة ً بمثابة " ريع المنصب " .
ولعل تلك الخصائص لعمليات التراكم المالي ( وليس الإنتاجي ) من خلال المواقع والمناصب الوظيفية العليا , ميزت العديد من بلدان العالم الثالث , وهي التي وقعت عالم الاجتماع الفرنسي الرموق ( بيير بورديو ) الى صك مفهوم " رأس المال الرمزي " ليقابل به " رأس المال المادي " الملموس والمتعارف عليه , فهؤلاء الذين يقضون على مقاليد ومكونات " رأس المال الرمزي " في ثنايا هيكل السلطة , لهم دور مهم في أعادة " انتاج الفساد " في العديد من بلدان العالم الثالث , وسد الطريق امام عمليات " التراكم الانتاجي " .
لعل هذا النوع من الممارسات يلقي بظلاله على مدى كفاءة اداء " اليات السوق " في بلادنا , حيث يصعب وضع الحدود الفاصلة بين " التجارة " و " الإمارة " . ولعلنا نشهد هذه الايام في العديد من بلدان العالم او بالاحرى البلدان العربية استعداد نفر ٍ من رجال الإعمال " النشيطين اقتصاديا " للانتقال المعاكس من مواقع " الإدارة " والجاه الإداري والسياسي , تحت شعارات براقة تبدو ذات طابع " إصلاحي وانفتاحي " .
لعل اخطر ما ينتج عن ممارسات الفساد والإفساد هو ذلك الخلل الجسيم الذي يصيب أخلاقيات العمل وقيم المجتمع , مما يؤدي الى شيوع حالة ذهنية لدى الإفراد تبرر الفساد وتجد له من الذرائع ما يبرر استمراره , ويساعد في اتساع نطاق مفعوله في الحياة اليومية , اذ نلاحظ ان " الرشوة " و " العمولة " و " السمسرة " أخذت تشكل تدريجيا مقومات نظام الحوافز الجديد في المعاملات اليومية , الذي لا يجاريه نظام اخر .
وعندما تتفاقم مضاعفات الفساد , مع مرور الزمن , تصبح " الدخول الخفية " الناجمة عن الفساد والإفساد هي الدخول الأساسية التي تفوق أحيانا في قيمتها " الدخول الاسمية " مما يجعل الفرد يفقد الثقة في قيمة " عمله الأصلي " وجدواه , وبالتالي يتقبل نفسيا ً فكرة التفريط التدريجي في معايير اداء الواجب الوظيفي والمهني والرقابي . فيتم تعلية العمارات بلا " تراخيص " وبلا " ضوابط " ويتم تسليم المباني والإنشاءات من دون ان تكون مطابقة للمواصفات ويتم غش المواد الأساسية . ويجري تهريب السلع للاتجار بها في السوق السوداء , ويتم التعدي على أراضي الدولة بالاغتصاب والإشغال غير القانوني . وفي غمار كل هذا يفقد القانون هيبته في المجتمع , لان المفسدين يملكون تعطيل القانون , وقتل القرارات التنظيمية في المهد . وعندما يتأكد للمواطن العادي , المرة تلو المرة , ان القانون في سبات عميق , وان الجزاءات واللوائح لا تطبق ضد المخالفات الصريحة والصارخة لا من المجتمع الاقتصادي والاجتماعي , فلا بد للمواطن العادي من ان يفقد ثقته في هيبة القانون في المجتمع وسلطاته ... وتصبح مخالفة القانون هي الأصل واحترام القانون هو الاستثناء . وهكذا عندما تضييع الحدود الفاصلة بين " المال العام " و " المال الخاص " ويتم الخلط المعتمد بين " المصلحة العامة " و " المصلحة الخاصة " , تنهار كل الضوابط التي تحمي مسيرة المجتمع من الفساد . وتتآكل كل القيم والمثل التي تعلي من شأن الصالح العام .
من المفيد استحداث اليه للكشف عن ممارسة الفساد في المجتمع العراقي بشكل دوري . على غرار مراصد " حقوق الانسان " . اذ ان هناك عناصر رئيسة تشكل جوهر " صناعة الفساد " يجب ان تسهر هذا المراصد على متابعتها ورصدها بشكل دوري .
مقالات اخرى للكاتب