لم يكن لـ"التحالف الوطني" الذي تأسس بهدف جمع القوى الشيعيّة الفائزة في انتخابات العام 2010، أي دور منذ ذلك الحين سوى اختيار رئيس للحكومة. وهو مذاك الوقت في مرحلة الموت السريري، حتى أدخل اليوم بعد الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة التي أجريت في 30 نيسان/أبريل المنصرم إلى غرفة الإنعاش، في محاولة لإعادته إلى الحياة.
بإختصا: إعادة إنعاش "التحالف الوطني" لن تكون مهمة سهلة، وقد تنهار في أي لحظة مستقبلاً. فالانقسام الشيعي اليوم لم يعد انقساماً مع احتفاظ القوى بوزنها وقواها، بل إنه انقسام قائم على احتمالات مفتوحة لإفناء أي طرف للآخر مستقبلاً، ولن تمنح أي قوة في نهاية الأمر مفاتيح إفنائها إلى منافسها حتى ولو كان ذلك تحت شعار: الحفاظ على وحدة الشيعة في العراق!
الانتخابات العراقيّة الأخيرة والتي ما زالت نتائجها مؤجلة بانتظار استكمال عمليات العدّ والفرز، أفرزت بحسب تسريبات متوافق عليها ثلاث قوى شيعيّة رئيسيّة هي: "دولة القانون" بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي الذي يتقدّم الانتخابات بشكل لافت، و"ائتلاف المواطن" بزعامة رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي عمار الحكيم الذي حقق تقدماً كبيراً مقارنة بانتخابات العام 2010، وتيار رجل الدين مقتدى الصدر الذي يتوقّع له تراجعاً نسبياً في عدد مقاعده السابقة مع احتفاظه بحضور سياسي رئيسي.
على هامش هذه الخريطة الثلاثيّة، ثمّة قوى وتيارات وشخصيات مثل "منظمة بدر" و"حزب الفضيلة" و"تيار الإصلاح" وغيرها متحالفة في المجمل مع المالكي. لكن ليس من المستبعد أن تغيّر وجهتها التحالفيّة لصالح الحكيم والصدر، في نطاق معادلات متحرّكة.
وبعيداً عن التسريبات حول توزيع المقاعد غير المثبتة، يحاول تيارا الصدر والحكيم بشكل واضح منذ انتخابات المحافظات في العام 2013، إيجاد نوع من التوازن في داخل منظومة القوى الشيعيّة في وجه صعود المالكي الذي يتم على حسابهما في الشارع الشيعي.
وعلى الرغم من أن الانتخابات الحاليّة قد تخلق مثل هذا التوازن، إلا أنها قد لا تضمن عودة "التحالف الشيعي" إلى الحياة.
من الممكن أن يقود رفع المالكي شعار حكومة "الأغلبيّة" السياسيّة والتمسّك به وعقده اتفاقات أوليّة مع بعض القوى السنيّة والكرديّة لإعادة تجديد ولايته، إلى انهيار "التحالف الوطني" الذي ما زال وجوده يعتبر أولويّة لدى المرجعيّة الشيعيّة الرئيسيّة في النجف وأوليّة أيضاً لدى إيران وإلى حدّ بعيد.وتشير مصادر مقرّبة من طهران لـ"المونيتور" إلى أنها ما زالت تدعم خيار تشكيل "التحالف الوطني" من القوى الثلاث، ليكون مؤسسة تنتج رئيس الوزراء وتقوم بدور مواز لدور البرلمان في المراقبة واتخاذ القرارات.
وكان لافتاً أن الخطاب الأول للسيّد عمار الحكيم بعد الانتخابات، دعا إلى إعادة تشكيل "التحالف الوطني" على أسس جديدة. لكن هذه الدعوة لا يبدو أنها تشكّل أولويّة اليوم لدى ائتلاف المالكي الذي يحاول ترجمة الفوز في الانتخابات إلى آليات عمل جديدة، قد لا يكون "التحالف الوطني" من ضمنها.
إلى ذلك، أوضحت مصادر سياسيّة عراقيّة لـ"المونيتور" أن ثمّة سيناريوهَين لإحياء التحالف الوطني:
الأول: يمثّل وجهة نظر الصدر والحكيم. وهو يذهب إلى تحويل التحالف الوطني إلى مؤسسة ذات نفوذ على رئيس الوزراء تملك نظاماً داخلياً وآلية لاتخاذ القرار بالأغلبيّة، وكذلك حكومة ظل جاهزة في حال وجِد مبرّر لتغيير الحكومة.
الثاني: يتبناه المالكي نفسه. وهو يذهب إلى أن صوغ قرار التحالف يجب أن لا يكون بعيداً عن معطيات الأرقام التي تفرزها الانتخابات. فالقوة الأكبر تمتلك الصوت الأكبر في داخل التحالف وهي المسؤولة عن ترشيح رئيس الوزراء، وعلى القوى الأصغر منها أن تدعمها.
في الواقع، كلا السيناريوهَين صعب المنال، فتحويل "التحالف" إلى مؤسسة ليس له أي أثر قانوني على الأرض. وشكل التحالف في العام 2010 والاتفاقات حوله كانت تذهب في هذا الاتجاه، لكنه لم ينجح في القيام بأي دور واستمرّ بتنفيذ مهام شكليّة مع تنامي قوة المالكي. أما في ما يخصّ الخيار الثاني، فلا يمكن للصدر والحكيم القبول به لأنه يعني منح المالكي فرصة إنهاء دور القوتَين الشيعيّتَين اللتَين تنافساه على الأرض مستقبلاً، لصالح ائتلافه.
مسألة رئيس الوزراء وأسلوب اختياره مفصليّة في هذا الشأن. فالصدر والحكيم يمكن أن يقبلا بترشيح ائتلاف "دولة القانون" شخصيّة غير المالكي لرئاسة الحكومة المقبلة، ويمكن أن يطلبا دعم أكثر من مرشّح للسنّة والأكراد للاختيار بينهم، لكن الإبقاء على المالكي يمثّل خطراً مباشراً على كينونة القوتَين.
مثل هذا الكلام لا يُفهم بشكل واضح، إلا بالنظر إلى بعض معطيات الانتخابات الحاليّة ومنها:
- البيئة التنافسيّة للقوى الثلاث هي البيئة الشيعيّة التي تتحصّل على مقاعد شبه ثابتة يتراوح عددها ما بين 159 و165 مقعداً من بين 328 مقعداً برلمانياً، ولا إمكانيّة لنيل أي من هذه القوى أصوات باسمها في البيئتَين السنيّة أو الكرديّة.
- تمكّن المالكي للمرّة الأولى من اقتحام قواعد تيار الصدر. وهذا تطوّر في حال استمرّ، سيعني إمكان "ابتلاع" ائتلاف المالكي لقاعدة الصدر مستقبلاً.
- العلاقة بين قاعدتَي المالكي والحكيم هي علاقة تنافسيّة، فالطرفان يتنافسان على الجمهور نفسه. وكان المالكي قد ابتلع قاعدة الحكيم في العام 2010 مع أن الطرفَين كانا في وئام واتفاق سياسياً وحزبياً. لكن الحكيم عاد واستعاد بعض تلك القاعدة في العامَين 2013 و2014، عندما اختار مواجهة المالكي وطرح نفسه كمعارض لتوجّهاته.
وهذا يعني أن الحسابات على الورق لا تشير إلى إمكان اقتناع الصدر والحكيم بالإبقاء على المالكي في منصبه لولاية ثالثة. فهو لم يعد مجرّد زعيم لحزب وإنما "رمز شيعي" يحصد الأصوات الشيعيّة باعتباره "المدافع الذي يقف في وجه الإرهاب" و"الرجل القوي" و"بديل رجال الدين التقليديّين". وبالطبع، فإن منصبَي رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة وكل ما حولهما من إمكانات ماديّة ومعنويّة، هما المصدر الرئيس لهذه الرمزيّة.
من جهة أخرى، لا يمكن للمالكي القبول بتقاسم القرار السياسي والأمني والحكومي المستقبلي مع الصدر والحكيم اللذَين لم يتمكنا مجتمعَين من منافسته بشكل خطير انتخابياً.
بإختصار: إعادة إنعاش "التحالف الوطني" لن تكون مهمة سهلة، وقد تنهار في أي لحظة مستقبلاً. فالانقسام الشيعي اليوم لم يعد انقساماً مع احتفاظ القوى بوزنها وقواها، بل إنه انقسام قائم على احتمالات مفتوحة لإفناء أي طرف للآخر مستقبلاً، ولن تمنح أي قوة في نهاية الأمر مفاتيح إفنائها إلى منافسها حتى ولو كان ذلك تحت شعار: الحفاظ على وحدة الشيعة في العراق!
مقالات اخرى للكاتب