ثمة حقيقة واقعة تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط تشهد حرباً عالمية ثالثة على نحو خاص بها .. لكن هذه الحرب تتميز بخاصيات مختلفة الأبعاد العسكرية والسياسية الكلاسيكية . والى جانب صحة تعريفها بصراع الحضارات , ألا انه لا يفسر مضمونها بالشكل الصحيح , حيث لا يكشف النقاب على نحو كاف عن أبعادها التاريخية والاجتماعية كذلك ثمة غموض في تحديد الأطراف المعنية فيها , وفي أساليبها ومأربها . ورغم كثرة التطرق إلى المخططات والمشاريع المتعددة فيها , ألا أنها الحرب الأكثر عشوائية وافتقار للتخطيط , وكأنها تسير من تلقاء نفسها , او كأنها وجهاً لوجه أمام حرب تهدف الى خلق الفوضى , لا غير . ان مجتمع الشرق الأوسط ( ودوله ) يعبر بكل معنى الكلمة عن ركام متكدس من المشاكل العالقة . فالمشاكل المتنوعة المكبوتة والمتراكمة منذ الماضي الغابر , قد تركت المجتمع مقطوع الأنفاس . أما الأنظمة المفروضة عليه من قبل النظام الرأسمالي بغرض أيجاد الحلول لها , فقد أضحت بحد ذاتها منبعا لخلق المشاكل , فلا الدول المعنية قادرة على أيجاد الحل , ولا هي تفسح المجال للقوة الممتلكة للحل الداخلية منها والخارجية بان تقوم بدورها . ان تسمية المشاكل بأنها مجرد أزمة أسلامية , هو تعبير خاطئ للغاية .حيث ثمة ذهنيات سائدة تتخطى نطاق الأديان التوحيدية , وتمتد بجذورها لتصل الى العهد الجديد تشكلت الكثير من النسج والأنظمة الاجتماعية التي لا يمكن تفسيرها بالظاهرة القومية . اذ تكاد كل عائلة , وليس كل عشيرة وحسب , تتضمن اختلاطاً وتعقيداً أشبه بمشكلة الدولة . تعاني الهوة الكائنة بين المجتمع والدولة . وكان ثمة فوضى يعج فيها حشد من الصم والبكم والعميان الذين لا يتفاهمون فيما بينهم , وقابعون في قاع برج بابل , مثلما تقول الأسطورة . وكأن تلك الأسطورة انتعشت مرة أخرى في نفس المكان . حيث تبذل ما يناهز السبعين من القوى القومية جهودها ومساعيها . لكن الخلل يتفاقم يوماً بعد يوم . فالصراع العربي – اليهودي المتبقي من أيام الفراعنة , لم يفقد من وتيرته شيئاً . أذن , والحل من الضروري البحث عن جواب أكثر وضوحاً للسؤال التالي : كيف تصل المشاكل مثل هذه الحالة في الشرق الأوسط ؟ يتشكل مجتمع الشرق الأوسط الخلية لجميع المجتمعات وهو يستمد قوته من ماهيته هذه . نظريات خلية النواة دارجة على المجتمعات أيضا . لقد أبدى النظام الرأسمالي قدرته على التوسع والانتشار من ثقافة القارة الأمريكية إلى استراليا , ومنها الثقافة الهندية والصينية واليابانية , ومن أفريقيا إلى الثقافتين الروسية والليبيرية الجنوبية . لقد انتصر في حرب هي ضرب من ضروب صراع الحضارات والثقافات . ألا ان نفس النظام لم يستطيع تحقيق فتوحاته تلك في منطقة الشرق الأوسط , رغم محاولاته العديدة المتعاقبة منذ أعوام 1800 . ولربما مر فيها حالات أكثر شحناً بالمشاكل من الحروب العالمية . حيث ثمة عناصر تتجاوز حروب الصهر والإذابة . لاشك في ان السبب الأساسي لكل المصاعب المتلقاة ينبع من النسيج الاجتماعي للمنطقة .
ان الملكية والإقطاعية اللتين قضت عليها الثورة الفرنسية تشبهان الشارلية القيصرية والإقطاعية التي قوضتها . وأطاحت بهما الثورة الروسية . لكن كلتا الثورتين انشغلتا أثناء ذلك ببنى فوقية لا نسيج غائر لها , مع ذلك , فتشخيص تلك البنى وتفكيكها تضمن مصاعب جليلة . بيد ان هاتين الثورتين قامتا في البنى الفوقية , ولم تتخلصا من الالتحام الأعظم بالنظام الرأسمالي .
وناهيك عن حل مجتمع الشرق الأوسط وبنيته الفوقية للمشاكل , بل انتهى قرض هذه النماذج عليه بتجذرها أكثر فأكثر . لذا , لا يتبقى من الأمر سوى ضرورة الفهم الحسن لطبيعة صراع الحضارات . الأصح من ذلك هو التساؤل : ما الذي يبقي على حضارة الشرق الأوسط عقيمة ومقاومة عنيدة لهذه الدرجة ؟ لماذا تحرز النتائج المرجوة في كافة الحضارات الشهيرة في العالم لدى المداخلة فيها , في حين ان الحلول الشبيهة تلقي الفشل الذريع في الحضارة الشرق أوسطية ؟ . يمكن الرد على هذه التساؤلات في حقيقة الحضارة الأم . فكيفما يشبه الابن أمه بالضرورة – ولا تشبه الأم ابنها – فالحضارات الوليدة من الحضارة الأم , لا يمكنها ان تشبه أمها بنفسها . بل هي مرغمة على التشبيه بحضارتها الأم من بعض النواحي بأقل تقدير . اذا ما رجعنا ثانية الى مثال خلية النواة , نجد انه من الممكن العثور على البنى الجينية ( الوراثية ) الموجودة في جميع الخلايا المتكاثرة ضمن خلية النواة . في حين انه من الحال العثور على كافة جينات ( موروثات ) الخلية النواة في الخلية المتكاثرة منها . لا شك في ان المقارنة المفرطة للظاهرة الاجتماعية بالظواهر البيولوجية تتضمن أخطاء فادحة . لكنها . مع ذلك , تزودنا بالسهولة المتوخاة لتفهم الاتجاهات الموجودة بشكل صحيح , لذا , جلي للعيان مدى ضرورة ان تتقرب حضارة النظام الرأسمالي بعمق وخصوصية اكبر إزاء الحضارة الشرق أوسطية .
يجب النظر أولا الى البنية الذهنية , لدى البدء بتحليل الحضارة الشرق أوسطية . فنشوء وتوطد بنى الأديان التوحيدية الثلاثة في هذه المنطقة , يشكل احد أهم حقائقها . ثمة العديد من المواضيع الأساسية التي يتوجب على السوسيولوجيا الدينية تحليلها في المنطقة . هذا ومن اللازم تحديد خطوط هذه المحاولات عبر السلوكيات الأدبية والفنية الأخرى أيضا . علاوة على ان رسم الخريطة الذهنية فيها دون تمييز او فصل قيم المجتمع المعاصر ( النيوليتي ) – الذي لا يزال مؤثراً في المنطقة – عن غيرها , سيتضمن أخطاء حقيقية . من جانب أخر , لا تزال ظواهر المذاهب والقبائل والعائلة , حقيقة معايشة فيها كوحدات سفلى لظاهرتي الأمة والدين الملتحمتين مع السلطة . اما القوالب الذهنية الناجمة عن الرأسمالية , فلا تجد معناها في المنطقة الا بعد انكسارها وتحطيمها .
ان تناول ودراسة جذور القوالب الذهنية ضمن بدايات التاريخ , بل وحتى قبلها في التعددية الإلوهية وفي العالم الميثولوجي , وخاصة ضمن نطاق العلاقة مع الميثولوجيا السومرية سيساعدنا على الفهم الأمثل لخصال الذهنية المتداخلة فيما بينهما . ان ثنائيات القول والعمل , المصطلح والظاهرة , والوهم , الدين والحياة , العلم والايدولوجيا , الفلسفة والدين , وكذلك الأخلاق والقوانين تشهد تخالطاً وتشابكاً وخراباً وفساداً ولا تحيزا حاداً في راهن منطقة الشرق الأوسط , حيث تكاد جميع الشرائح الذهنية التي شهدتها البشرية مخزنة على شكل ركام متكدس من المشاكل العالقة , مع ما نجم عنها من تلوث , ولا تتوانى البنى اللغوية ايضاً – القديمة منها والحديثة . عن عكس الحالات الذهنية القائمة وتصويرها بكل ما تحتويه من تزمت وتصلب . هذا وتعاني مصطلحات المماليك والأوطان والقوميات والدول المبينة حدودها , والمتأسسة في غضون القرن الأخير , من جهالة مركزة وضيق أفق حاد . ثمة تزاوج مشحون بالشوائب والعيوب بين عناصر الذهنية المعاصرة من جهة , وعناصر ذهنية العصور الوسطى والأولى من الجهة الثانية . لذا , فأي قصف للبنى الفيزيائية الطبيعية ( على الصعيد السياسي والاجتماعي والقانوني والاقتصادي ) , دون قصف البنى الذهنية في واقع الشرق الأوسط , لن يسفر في مضمونه الا عن ممارسات وحشية قصوى للمجازر والإرهاب والتعذيب , الرسمية منها وغير الرسمية , مثلما شاهدنا ذلك في يومنا الراهن .
كذلك تشير البنى السلطوية في منطقة الشرق الأوسط الى فروقات هامة تميزها عن غيرها من الميادين في العالم . كما ان تعاني الهوة الشاسعة بين المرأة والرجل اغتراباً جاداً اقل اختلاطا وتعقيداً من الخصال الذهنية . فرغم كونها من اقدم المؤسسات القائمة في المنطقة , الا ان العلاقة بينهما وبين الحياة الاجتماعية والاقتصادية , تعاني من انقطاع ومفارقات مذهلة . والعلاقات المتبادلة بينهما , منفتحة لكل أنواع الديمانوجيات والقمع , من أدقها وأغلظها . اما العقلانية ( المنطق ) فهي " الربح " الاقل معنى وجدوى . وفيما يخص السوسيولوجيا ( علم الاجتماع ) فكانها مصقولة داخل الروابط الدينية والاثنية والاقتصادية والطبقية والسياسية للسلطة , كظاهرة بعيدة كل البعد عن التحليل والتفسير . من الصعب الحصول على منظر واقعي للشرق الاوسط دون القيام بتحليلات صحيحة للسلطة والحرب بدءا من كونهما مصطلح ديني تجريدي للغاية , وحتى كونهما عصا وهراوة غليظة مسلطة . تتضمن مؤسسات البنى الاجتماعية , وبشكل خاص ظاهرة الاسرة , تشابكاً وتعقيداً , يماثل ما عليه من ظاهرة السلطة , باقل تقدير , فالرجل والمراة في الشرق الاوسطيين يتميزان بتشابك يستلزم بالضرورة تحليلاً خاصا بهما . واي تحليل للاسرة والمراة والرجل الحاكم من خلال القوالب السوسيولوجية العامة , سيحتوي نواقص مهمة جدا . فالواقع السياسي والايديولوجي والاخلاقي ينعكس على الرجل والمراة , باكثر جوانبه فسادة وجلكة . والتناقضات القائمة في مؤسسة الدولة . فالاسرة هنا ابعد من ان تكون مؤسسة اجتماعية , وادنى من ان تكون الثقب الاسود للمجتمعات , واذا وضعنا المراة تحت عدسة المجهر . لربما تمكنا من قراءة جميع دراميات الانسانية فيها .
تتطلب كل من المجتمعية التاريخية والجيومجتمعية ( المجتمعية الطبيعية او الجيولوجية ) الاقتراب من المنطقة ودراستها ضمن روابط دياليكتيكية كثيفة للغاية . فبدون تحليل كل فترة ( كل جزء ) من فترات ( اجزاء ) ازمنة التاريخية والامكنة الجغرافية , لن يكون بمقدورنا الادراك الكامل لراهننا , وللانظمة الحضارية برمتها . التاريخ اللامكتوب اهم بكثير من التاريخ المكتوب . هذا وحكيات الامكنة غير المذكورة , وغير المكتوبة , اهم بكثير ايضا من تلك المذكورة والشهيرة . وبدون معالجة التخلف الاقتصادي ضمن كافة هذه الروابط المجتمعية , فان التحليل عبر المبادئ الجافة والمجدية للنظريات الاقتصادية , لن يجدي نفعاً يذكر . علاوة على ان تحليل الكل بعد تجزيئه وتشريحه الى اقسام صغيرة – والذي يعد مرضا عاما يسود علم الاجتماع – سليم عن اكثر نتائجه تضمناً للاخطاء والنواقص , لدى اسقاطه على الفعاليات الحضارية للشرق الاوسط , وفي مقدمتها الاقتصاد . فالتحليلات الاقتصادية المفتقدة لتداول ومعالجة السلطة والذهنية والمجتمعية بشكل متداخل , لن تؤدي سوى تجذير الجهل والافتقار للمعلومات اكثر . اذن , ساطع سطوع النهار ان البحث والتدقيق في منطقة الشرق الاوسط عبر القوالب التحليلية للحضارة الغربية , يحتوي اخطاء واغلاطاً نظرية وعملية مهمة . والفوضى القائمة حالياً هي – لد ما – ثمرة لمثل هذه التوجهات . لا يمكن لاحد – بعد الان – انكار وجود الفوضى في الشرق الاوسط , كموضوع يكثر عليه الجدل في وقتنا الحالي . لكن المؤسف في الامر هو انه , لا المدعون بانهم اصحاب المنطقة الحقيقيون , ولا دعائها الجدد , يتناولونها بتحليلات ذات جدوى , انهم يخافون . فالتناول الحقيقي لواقع المنطقة لا يعني فقط فتح فوهة " علبة الطماطة " , بل وسيعني ايضا ضرباً من ضروب نزول " سفينة نوح على سفوح جبل جودي " الجديدة . حينها لن تزد بعد الحياة الا بنسل جديد ( سواء على الصعيد البشري او الايكولوجي ) . فالحياة الحالية مرتدية رداء الرياء والاستبداد , يغطيها من راسها حتى اخمصها , ومثلما هي مليئة بحيثيات ورواسب التقربات الاستبدادية والاستغلالية المعمرة منذ الاف السنين , فان مساماتها الاجتماعية محتقنة بكل انواع الدعارة والفحوش الممتدة في جذورها الى دولة الرهبان السومريين المعمرة رسمياً خمسة الاف عاماً . وتلتقط انفاسها بمشقة بالغة , بحيث – وان لم تكن ميتة تماما – تكون بعيدة كل البعد عن الحياة الطبيعية .
ترى , هل ستشفى الامبراطورية الامريكية ( الاسكندراوية المعاصرة – نسبة الى الاسكندر المقدوني ) عن تطورات نذكرنا بالهيلينية , عبر مشاريعها , الشرق اوسطية اخيرة ؟ وهل ستقدر امريكا عبر تحالفها مع الارستقراطيين والليبراليين العرب والعراقيين , ان تخلق مستجدات شبيهة بتلك التي قام بها الاسكندر بتعزيزه للحركة الهيلينية , عبر تحالفاته التي ابرمها مع الاستقراطيين الكرد ( الاكراد ) الذين كانوا يشكلون بنية خاصة بذاتها الامبراطورية البرسية ؟
الاهم من ذلك , هل من الممكت ان يتكرر الدور الذي لعبه العراقيين في كونها من الحضارة لدى بزوغ فجر التاريخ ( بلاد مابين نهرين )؟ بمعنى اخر , هل ستلعب دوراً شبيهاً لدورها السابق اثناء العبور الى عصر الحضارة الديمقراطية ايضا في الشرق الاوسط ؟ حيث انها تمثل بالارجح دور الحضارة عبر التاريخ على نحو " التأثير والانكاس " من الخارج , ازاء الحضارات المجاورة لها . هذا وشهدت تطورات حضارية محدودة العدد في اراضيها . اذ انهكت بالاغلب بالمقاومة والصمود وحماية الوجود ازاء الاعتداءات والغزوات الخارجية , وذلك على اساس مقاومات الاثنيات ( القبائل , العشائر ) والدخول في تحالفات مساعدة على تحقيق مأربها تلك . وهي لا تزال تحافظ على ماهيتها هذه في راهتنا ايضا .دمن جانب اخر , لن يكون من السهل المقاومة وصون الوجود وابرام التحالفات بأساليبها القديمة , تجاه الراسمالية العالمية الشارعة في شن حملة جديدة . غحتى لو ارادت العوائل والشخصيات الارستقراطية والليبرالية المتواطئة ان تستمر في هذه السياسة , فالشعب لن يكتفي بتلك الاساليب القديمة , بعد ان تجاوز نطاق الاثنية وغدا شعباً ديمقراطياً , وبات من الصعب ان تتحكم به هذه القوة او تلك .
سيكون من الواقعي اكثر بالنسبة للتحرريين الاجتماعيين ان يروا في عدم قدرة العراقيين – كشعب على تاسيس دولة كلاسيكية في الوقت الحاضر , عوضا عن تقييمها كخسارة . اذ كم هو عدد قيم الحرية الاجتماعية , وكم هو عدد التحريين القادريين على ارضاء شعوبهم بتطلعهم الى الدولة العراقية وتمحورهم حولها ؟ كل الشعوب الامريكية اللاتينية والافريقية والاسيوية اصبح لها دولها . المهم هنا من الناحية التاريخية , هو توحيد الشعوب المشاعية والديمقراطية كطراز سلوكي اساسي لها , مع امكانيات وفرص العلم والتقنية , ومؤسساتها . ان ما تحتاج اليه شعوب الشرق الاوسط في راهننا , هو الديمقراطية , بقدر حاجتها الى الماء والهواء والطعام . واي خيار اخر غير الديمقراطية لن يقدر على تلبية امال الشعوب وتأمين سعادتها ورغدها . وقد جرب ذلك طيلة التاريخ . اذا مااستقر الشعب العربي , الذين يحتلون صدراة هذه الشعوب وزمانهم التاريخي واراضيهم التي اصبحت عضوا استراتيجياً مهماً الى ابعد الحدود في منطقة الشرق الاوسط , واذا ما سخروها لصالح بناء الحضارة الديمقراطية ونجحوا , سيكونون قدموا افضل خدمة لجوارهم , وللبشرية جمعاء .
" التاريخ اللامكتوب اهم بكثير من التاريخ المكتوب هذا وحكايات الامكنة غير المذكورة وغير المكتوبة اهم بكثير ايضا من تلك المذكورة والشهيرة ".