جرحني قارئ وهو يصفني بـ"المثقف الجنوبي"!
قلت له: أنا مثقف عراقي، إن شئت!
مثل هذه التعابير جارحة، ولكنها بالنسبة لآخرين مبهجة جداً. خذوا هذه العيّنات: الشاعر الكردي العراقي. الكاتب الشيعي. المؤرخ السني. واليوم نصل للمثقف الجنوبي، والمثقف الغربي، والمثقف الشرقي والمثقف الشمالي! فأين العراق؟
أعرف العديد من الأصدقاء الذين أنتهت بالنسبة لهم، بشكل نهائي، مسألة العراق. هؤلاء يؤمنون بضرورة التقسيم، وأنه قادم لا محالة. قد يتأخر، ولكنه قادم. من هؤلاء أكراد، يطربون لجملة المثقف الكردي. ولكنني لم أتعرف على التعابير المناسبة التي يشتهيها المثقفون العراقيون العرب، فيما إذا حصل التقسيم، وصارت هنالك دولة للشيعة ومثلها للسنة. بالنسبة لي، لست معنياً بهذه القصة أبداً، ذلك أنني أدرك تماماً أن تقسيماً من هذا النوع، سيريح بعضاً، وسيدفع ببعض آخر إلى الهجرة. أنا اختصرت الطريق، وهاجرت.
ولكن لماذا أعدّ جملة قارئي تجريحاً لي؟ ألست أبن العمارة، وبالتالي الجنوب العراقي؟ بلا والله، ولكنني تربيت على أن هذا الجنوب، هو جنوب العراق، وبالتالي، كانت سعادتي الحقيقية عندما وصلت إلى بغداد، فتهت في شوارعها، واستنشقت شذى نسائمها العليلة، وتحارشت بفتياتها، وأدمنت مسارحها وصالات السينما والرسم فيها، عشقت دجلة بغداد أكثر من دجلة العمارة، بالرغم من أن الأول لم يكن متاحاً مثل نهر مدينتي! قارئي، المحترم، لم يلحظ ذلك، كل الذي لاحظه احتدام طائفي، وفرز عنصري منحطّ، يدفع ثمنه ابناء الطائفتين في عدد من مدن العراق شبه المختلطة، وبالطبع هو يرى محنة أبناء طائفته فقط في هذا اللهو الدموي. قارئي غير معني، للأسف، بالخطة الجهنمية الرامية إلى خلق مناطق طائفية متجانسة، وإقصاء أي تنوع طائفي في أي مكان عراقي. هذه الخطة تريد أن يكون الجنوب العراقي حكراً للشيعة، والوسط الغربي حكراً للسنة، والشمال للكرد... الخ. الأمر الذي شجع ابناء الديانات الآخرى للمطالبة بمناطق خاصة بهم. ولو تحقق ذلك، وأعتقد أننا ذاهبون نحو تحقيقه بفصل ساستنا الأشاوس، الذين يهمّهم جداً تحقيق هذه الخطة، فمعنى ذلك أندثار التسميات التقليدية، على شاكلة المثقف العراقي، لصالح جديدة، هي تلك التي نعتني بها قارئي الأغرّ!
كم من المثقفين سيقبل بالتسميات الجديدة؟ من الذي سيصمد أمام إغراء أن يكون الأبن البارّ للطائفة، وليس الخارج عليها؟
أن ما يحصل حالياً هو تطبيق لمثل هذه الخطة. والمشكلة أن "الناس على دين ملوكها"، وبالتالي بدأ بعضهم بترديد عبارات لا يفهمون مدى خطورتها، سواء بالنسبة للعراق الموحد، أو بالنسبة للمثقف نفسه، فيما لو أقرّ التقسيم.
قبل عامين تقريباً كتبت، في هذه الجريدة، عن الاحتفاءات المناطقية. وفحوى ما قلت: لماذا عندما أكون في العراق لا يستضيفني فيه إلا اتحاد أدباء مدينة العمارة، حيث ولدت، واتحاد أدباء العراق في بغداد؟ والأمر نفسه ينطبق على مثقف ولد في الموصل أو في البصرة. لماذا لا يفكر اتحاد أدباء الموصل بتضييفي، ولا اتحاد أدباء البصرة، ولا الكوت، ولا الرمادي، ولا كربلاء؟ ووصلت، حينها الى نتيجة تقول: "أعتقدجازماًأنالثقافةالمناطقية،إذاجازالتعبير،قدرافقتالثقافةالطائفيةالمنتعشةفيعراقمابعدصدام. محاولاتكسررتابةهذهالثقافةكانتبمهرجانات،منقبيلمهرجانهيت،المربد،عالمالشعر،الجواهري.... ولكنذلكهوغيرأنتحتفيمدينةسينبشاعرلميولدفيها".
ألا يتوافق ذلك مع هوى قارئي، الذي جرحني بتعبير المثقف الجنوبي؟