كنت أقف بالقرب من احد مواقع العمل في العاصمة بغـداد ، الذي تنفذه الجهة القطاعية ذات العلاقة ، بالاستعانة المحدودة بالخبرات الأجنبية في أواخر السبعينات ، أتأمل مليا تفاصيل العمل الميداني ، كيف كان المهندسين الأجانب يعملون بهمة عالية و حرص شديد على الانجاز بإخلاص قل نظيره ، وبإتقان ابهرني ساعتها ، بحيث نفتقده في أيامنا هـذه ، وعلى نحو أثار انتباهي ، لسبب بسيط هـو أن أقرانهم من المهندسين العراقيين الذين كانوا بمعيتهم اقل جدية منهم و أدنى تفان في ذات العمل ، فالتبس الأمر عندي آنذاك ، وأنا في عنفوان شبابي ، حتى صرت أسال نفسي : – من ياترى الكادر العراقي أم الاحنبي يستحق بجدارة أن يوصف بالوطني الحقيقي الغيور ؟ لا سيما وان المهندسين الأجانب كانوا يخوضون في المياه الطينية و الأوحال لإحكام ربط و إيصال و مـد الأنابيب الخاصة بـنـقل المياه الثقيلة بعضها ببعض ، وكان العرق يتصبب منهم في تلك الظهيرة القائضة ، في الوقت الذي يقف المهندسون العراقيين جانبا بملابسهم النظيفة ، وكان احدهم يضع يده في جيبه وهـو يرنو إلى فريق العمل الأجنبي بلا مبالاة ، أدركت حينها معنى أن يكون الفرد وطنيا ، و بأي المعايير و المقاييس توزن هكذا أمور .
مناسبة هـذه المقدمة ، وذلك الاستطراد ، إني سمعت قبل عـدة أيام احد المسؤولين في كلية الهندسة يؤكد لأحدى الفضائيات باعتزاز قائلا : – ( إن جامعتنا تفتخر لأنها تسعى لإعداد خريجين ذوي تفكير هندسي ) ، وهـو تصريح جميل لا غبار عليه ، و لكن كنت أود أن اسمع المسؤول يشدد على عناوين الإخلاص والجدية و الإبداع في العمل ، و كذلك الإشارة إلى عـدم الحاجة إلى الخبرات الأجنبية مستقبلا .
و جدير بالذكر إن ( الوطن ) و ( المواطنة ) و ( الوطنية ) ، هي مفردات ذات مفاهيم عميقة الدلالة والجذور في ثقافات الشعوب ، وفي دساتير العالم و الأدبيات الفكرية السياسية و القانونية التي ترتبط بالأرض و السيادة و أنظمة الحكم ، فالوطنية بالذات هـي ممارسة و سلوك تطبيقي و واقع عملي ملموس تتجسد فيها المشاركة الفاعلة و المخلصة في التنمية و البناء و التمدن و التطور و النهوض دون أدنى تقصير ، بعيدا عن المنافع و المكاسب الذاتية و المصالح الشخصية ، و الوطنية هـي أيضا عدم استغلال بسطاء الناس من الطبقات المتوسطة و الفقيرة في مختلف الظروف و الأوقات و الأحوال ، كما تعني الوطنية المساواة ضد التقسيم إلى طوائف و ملل ، بعيدا عن التناحر و الكراهية و التعصب ، وكيل الاتهامات و التراشق بالسباب ، و أخيرا وليس آخر إن الانتماء الوطني هـو فعل يومي خلاق و متحضر وعمل موضوعي متواصل في شتى نواحي و مجالات الحياة ، وليس مجرد صراخ و زعـيق و ادعاءات فارغة و خطابات رنانة مستهلكة .
مقالات اخرى للكاتب