كل الدول المتحضرة التي نجحت في تحقيق الوئام الاجتماعي تميزت بحزمة قوانين وإجراءات وأنظمة صارمة اضافة الى وعي حضاري بأهمية التعايش والتسامح والغاء التهميش والاقصاء من السلوك اليومي العملي ومن الثقافة والفكر .
فكانت تجربة الهند كأكبر ديمقراطية التي أسس لها الـ (مهاتما غاندي) بفلسفة اللاعنف ومعايشة الفقراء والمهمشين التي ادت الى دمج ملايين المنبوذين الهنود في المجتمع وحققت للهند استقلالها الناجز, وكانت ومازالت هذه الافكار هي التي تتسرب الى اعماق المجتمع الهندي .
وفي افريقيا تجربة دولة جنوب افريقيا التي بناها ( نيلسون مانديلا) بكفاحه ضد الفصل العنصري وانتصاره على العنصرية ومن ثم لجوئه الى تأصيل علاقة جديدة بين الاقلية البيضاء والاغلبية السوداء تتميز بالوفاق والتناغم من خلال لجان(الحقيقة والمصارحة ) الشهيرة .
ولابد ايضاً من الاشارة الى تجارب المانيا واليابان وايطاليا بعد الحرب العالمية الثانية التي تأسست على الديمقراطية ودولة المواطنة والحقوق المدنية لكل افراد المجتمع بعد ان اكتوت بنار النازية و الفاشية .
كل هذه التجارب الآن متميزة وتحقق نجاحات يومية وتبهر العالم بالتنمية والعمران والتقدم الاجتماعي, وميزتها انها لم تلجأ الى الخطابات والمؤتمرات ولم تشكل وزارات للمصالحة او لحقوق الانسان, بل جعلت التعايش والمصالحة والتسامح من المفردات اليومية السلوكية للفرد وسنُت قوانين مستقاة من تراث البشرية ومن المواثيق الدولية ولاسيما لائحة حقوق الانسان.
في العراق الامر متغير والمعالجة لاتتعدى عقد مؤتمرات والقاء كلمات وخطب انشائية لا تسمن ولا تغني من جوع .
والانكى من ذلك انه حتى في هذه المؤتمرات يمارس البعض سلوكه المتعسف والعنفي لالغاء رأي الآخر وابراز نفسه وكأنه يمتلك الحقيقة المطلقة في السياسة والدين والاخلاق .
وفي هذا السياق نضم صوتنا الى صوت ممثل الامم المتحدة في العراق الذي دعا الى سن قانون لحماية الاقليات, وذلك في الكلمة التي القاها في مؤتمر "الترويج للتسامح وحماية حقوق الاقليات في العراق" المنعقد يومي 17_18/11/2013 في بغداد .
اننا مازلنا نصر ان حقوق الاقليات ليس موضوعاً للخطابات النارية او الشعارات المناسباتية التي تطرح لاغراض انتخابية وحزبية وطائفية ضيقة, بل انها تركز على تغيير القوانين والسلوكيات والمناهج التربوية والاستفادة من تجارب العالم، فالعراق ايضاً جميل جداً اذا نظرنا اليه بكل تنويعاته الدينية والطائفية والسياسية والفكرية , وهو جميل حين نوجه كل المحبة والتقدير لأصغر المكونات صعوداً الى اكبرها .
اما عقد اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات التي تتحول ذكرى قبل ان يجف حبرها والاستمرار في السلوك اليومي الذي يفرض الاغلبيات على الاقليات فأن ذلك يؤدي حتماً الى التشظي والانقسام في حلقة مظلمة وشديدة العتمة .
يوم 15/11/2013 حضرنا الى حفل تكريم الكاتب والباحث (زهير كاظم عبود) الذي يعتبر فعلاً على حد تعبير الكاتب حسب الله يحيى "زهرة وطن ورجلاً استثنائياً ونبت خير". فقد بذل هذا الباحث جهداً منقطع النظير دفاعاً عن الايزيديين وديانتهم التي طالها الكثير والكثير من التشويه والتضليل والكتابات اللاعلمية, فكتب هذا الكاتب العربي مجموعة من اجمل الكتب عن الديانة الايزيدية منها (الأيزيدية .. حقائق وخفايا واساطير) و(لمحات عن الايزيدية) و ( طاووس ملك مجدد الديانة الايزيدية) وغيرها من الكتابات التي ازاحت الكثير من الاوهام والتشويهات التي الحقها آخرون بهذه الديانة العريقة من منطلق سياسي اوديني, الى حد ان الكاتب عبد المنعم الاعسم يقول بصراحة "لولا زهير كاظم عبود, ماعرفنا شيئاً عن الايزيدية".
واذ نأتي على سيرة القلم الاخضر للكاتب زهير كاظم عبود فهدفنا ان نوضح ان السلوك العملي والكتابة بأنصاف والتصرف وفق حقائق العصر مع المكونات هو الذي يثمر التسامح والتعايش في العراق, وكلما ازدادت الاقلام التي تؤسس للتعايش بالجهد والابداع والتأليف وتعبيد جسور التواصل والاعتراف الحقيقي بالمساوئ التي ارتكبت بحق الاقليات من قبل الاغلبيات, نكون قد جسدنا على ارض الواقع نموذجاً للتعايش والتسامح .
اما الاكتفاء بالخطابات التي تذهب في الهواء مثل الدخان الضائع والاستمرار في سلوك النعامة التي تخفي رأسها في التراب وهي تظن ان لا احد يرى جسمها العاري تحت الشمس فلن يؤدي الا الى المزيد من تأزيم العلاقة بين المكونات وحقنها بالقيح .
مقالات اخرى للكاتب