يحتل الفن في فلسفة نيتشه مكانة الصدارة ،ففلسفته تستدعي الفن بشكل قوي الى الحد الذي يجعله يقول
"وفي هذا الكتاب ذاته تتردد عبارة صعبة بمقتضاها لا يجد العالم تبريره سوى كظاهرة فنية او جمالية"
(ص : 16 ميلاد المأساة ).كما يضيف قائلا في مكان اخر "لأن كل حياة تقوم على المظهر والفن والوهم
وزاوية النظر والمنظارية والخطأ" (ص 17،ميلاد المأساة ) فالفن عنده هو النشاط الميتافيزيقي بامتياز .
*فما هو الحد الذي يعطيه للفن ؟ان الفن صنع للمظاهر .(Apparences) والمظهر عند نيتشه ليس
تمثيلا للحياة ،بل هو الحياة . المظهر هو الحقيقة لأنها لا يمكن ان تقوم سوى كمظهر .ليس المظهر زيفاً
أو وهما او ظلا للحقيقه كما يزعم أفلاطون الذي أقصى الشعراء من جمهوريته . من هذا المنظور قام
نيتشه بقلب الأفلاطونية، معيدا الاعتبار للحسي والشهو(le Sensible le Sensuel) بعدما تم ابتلاعه
من طرف المافوق حسي . (le Supra-Sensible)
فهو لا ينفك يتحدث عن الفيلسوف ـ الفنان في مقابل الفيلسوف النظري .
ان الفن يتعدى كونه مجرد نشاط خاص بالفنان ،ليتحول على يديه الى
منظار للحياة .يتبنى نيتشه مفهوما للفن يخرج من حدود الدائرة الجمالية ،ويتحول الى نشاط ميتافيزيقي
أكثر منه نشاطا خاصا بالفنان وحده ،فاذا أمكن تجاوز الميتافيزيقية فلا يكون ذلك سوى بواسطة الفن الذي
يصوغ ميتافيزيقية جديدة هي اثبات للحياة وتبجيل لها ،واحتفال بها عوض الميتافيزيقية القديمة التي قامت
على نفيها لصالح ما يتجاوزها اي لصالح العدم وارادة العدم أي ارادة انكار ونفي الحياة .
ها نحن نرى ان الفن مشروع لمجاوزة الميتافيزيقية لأنه هو نفسه يحل محلها كنشاط ميتافيزيقي يقوم
بالقضاء على النزعة العدمية (Nihilisme) التي طالما شكلت خلفية للميتافيزيقية ،وبذلك يعتبر الفن
مفتاحاً لاستراتيجية نيتشه الفلسفية الرامية للقضاء على العدمية .في المصطلح النيتشوي توجد عدة
أسماء لمسمى واحد ،وعدة محمولات لنفس الموضوع :سقراطية أفلاطونية ،مسيحية ،ميتافيزيقية ،حداثة،
فكلها تشير الى النزعة العدمية والى ارادة نفي الحياة .
تقوم استراتيجية نيتشه على الية القلب (Renversement) التي تعيد الاعتبار الى ما تم نفيه :الحياة .
فالغاية من قلب الأفلاطونية هي العودة الى "المنسي ":الى الحسي والشهوي ،انه تبجيل لارادة النفي ،
في المصطلح النيتشوي ،لا تحيل الأفلاطونية والسقراطية والمسيحية الى اتجاهات فلسفية أو الى مشارب
عقائدية ،انها كلها تشكلات لارادة النفي .
قلنا سابقاً ان الفن مفتاح لاستراتيجية نيتشه الرامية الى قلب العدمية ،والانتقال من ارادة النفي الى ارادة
الاثبات (V|d’ affirmation) اثبات مفارقات الحياة وتناقضاتها ،وتحويلها الى ظاهرة فنية وجمالية
خلقية بأن تعاش ويعمل في اطار هذه الاستراتيجية على ابتداع ونحت كوكبة من المصطلحات موجهة
للقضاء على ارادة النفي :النشوة ،المرح ،الرقص ،الضحك ."أيها الناس الممتازون تعلموا اذن الضحك".
الفن يجعل الحياة ممكنة بل وجديرة بأن تعاش ،انه خلاصSalut) ( ولكن ليس بالمعنى المسيحي طالما
أنه ليس هروبا من رعب الوجود وعبثه :خلاص ليس بمعنى التعلق بحقيقة ما فوق الوجود الحسي وانما
بمعنى تحويل رعب الوجود وعبثه الى مظاهرفنية يكون بموجبها هذا الرعب جميلا ،وهذا العبث سخرية
وضحكا،وهذا الألم انتشاء ،.(Ivresse)
ان نظرية نيتشه في الفن تتعارض مطلقاً مع وجهة النظر الرومانسية (Romantisme) فهو لا يجد أساسا
للفن في ذاتة الفنان وهو ما درجنا على تسميته بالابداع والخلق ان استبعاد الذاتية ضرورة تفترضها مجاوزة
الميتافيزيقية ،لأن الميتافيزيقية ،قائمة على مبدا الذاتية .من يبدع في الفن ليس الفنان ،بل هو الحياة نفسها ،
ولكن ليس الحياة المنحطة المتقهقرة ،بل الحياة القوية وجوهرها ارادة القوة التي تخترق الفنان ،فيتلبس
بلبوسها ،وينطق بلسانها .كلما نأي الفنان عن ذاتيته ،وذاب في فوران الحياة واندفاع ارادة القوة صار اقرب
الى المفهوم الحقيقي للفن ،فالرومانسية قد تتطلب من الفنان تقمص الطبيعة ،والتغني بها ،ولكنه في هذا التقمص وهذا التقمص وهذا التغني لا يفارق ذاتيته.فالفن الذي تحركه ارادة القوة هو الأقرب الى روح المأساة( I’ Esprit tratigique) وهنا يعود نيتشه الى المأساة الاغريقية من حيث انها التمثيل الاسمي للفن ،وكان ازدهار روح المأساة عند الاغريق قبل مجيئ السقراطية التي وأدت المأساة لصالح الجدل (Dialectique)،فالجدل هو أول أعراض المرض الذي بدأ ينخر عظام الثقافة اليونانية .ومثل طبيب يقوم
بتشخيص الأعراض يقابل نيتشه بين الصحة والمرض ،بين القوة والانحطاط .ان الجدل في السقراطية
(Socratisme) عرض وارهاص للأمراض التي بدأت تدب في جسد الثقافة اليونانية ،وتراجع لمظاهر الصحة والعافية المتجسدة في المأساة . الجدل تعالي على الحياة ،وتوحيد لأضدادها ،وحل لتناقضاتها ،
اما المأساة فاثبات لرعب الوجود ،وتعميق لتناقضات الحياة واذكاء لمفارقاتها ،الجدل نفي للحياة،ووهن لقوتها ،اما المأساة فاثبات للحياة وشهويتها .الروح المأساوية هي ملهمة كل فن عظيم ،لأنها علامة على صحة الفن دون انحطاطه الى الدرامية والرومانسية ،الروح المأساوية هي المحررة لقوى الطبيعةوالمطلقة لها من عقالها .يوظف نيتشه تأويلا رمزيا للأساطير اليونانية لتقريب مفهوم الفن من القارئ بل ان هذه الرمزية تخترق فلسفة نيتشه من أقصاها الى أقصاها .وها هو يمثل لروح المأساة بالاله ديوميزوس
(Dionysos) رمز النشوة والاسراف (Ivresse, Exces) رمز تدفق قوى الطبيعة وانفلاتها من عقالها
وهو ما يغني ويغذي نبع الفن ،فديو نيزوس رمز لعودة الانسان الى أصله الطبيعي ـ الحيواني الذي طالما
افتقده للعيش في تناغم كوني .وما مسخ الانسان في الأسطورة اليونانية الى كائن نصفه ادمي ونصفه حيواني وهو ما يسمى ب(Satyre) سوى عودة لهذا التناغم الكوني المفقود ،وتحرير للانسان من ذاتيته.
والفن المأساوي هو مشاركة للقوى الديونيزوسية في انطلاقها ،واندماج في ركاب قوى الطبيعة المنفلتة
من عقالها ،ان الفن اسراف وانتشاء لا محدود .غير ان الديونيزوسي (Ie Dionysiaque) بما هو زخم
ودفق للقوى اللاعقلانية ليس سوى وجه لعملة الفن،والابولوني (I’ Appolonien) بما هو تنظيم لهذه
القوى المندفعة في المظهر الجميل (Ia Belleapparence) وجهها الاخر .فالفن يتغدى من الديونيزيسي
زخما وانطلاقا واسرافا ،ومن الابولوني يتغذى اعتدالا (Mesure) وانسجاما ومقدارا.ان الاله أبولون صانع
المظاهر الجميلة ،وبعبارة أخرى ان الفن كما يحدده نيتشه اندماج لقوة ديونيزوس،وجمال أبولون.ولكن هذا الاندماج أبعد ما يكون عن المصالحة او التصالح (Reconciliation) والمهادنه ،انه صراع حتى الموت.
فالقوى الديونيزيسية المنفلتة من عقالها ،تشكل تهديدا مستمرا لاعتدال المظهر الابولوني ،انها الفوضى التي
تهدد النظام .وما جمال واعتدال المظهر الابولوني سوى تأجيل لتهديد ونفي القوة الديونيزيسية.هذا التقابل
بين ديونيزوس وأبولون ،بين الاسراف والاعتدال ،بين القوة والمظهر،بين الفوضى والنظام ،هو ما يجعل
ديونيزوس وأبولون مصورا.فالموسيقى تناسب اندفاع ديونيزوس وانتشاءه والتصوير يناسب اعتدال أبولون
وجماله لان الموسيقى اندفاع والصورة انسجام واعتدال .ان الموسيقى في نظر نيتشه هي الشكل التعبيري
الأسمى عن روح المأساة ،وبفضل ما تحتويه من ترنيم وترتيل وتنغيم (Melodie) هي ترجمة لاندفاعات
الشهوي (Ie Sensuel) والحسي(Ie Sensible) انها تترجم ما ليس بعد كلامها وحوارا ،وما ليس بعد
موضوع تفكير جدلي او تزهد أخلاقي .ولا يقصد نيتشه الموسيقى المترجمة للأفكار ،فهذه لا تتعدى كونها
مجرد وجه اخر الكلام والحوار وهو ما يتمثل في الغناء والأوبرالي ،ان الموسيقى التي يقصدها
نيتشه هنا ،هي تلك التي تضعنا وجها لوجه أمام المرعب (I’ Horrible) والهلامي . (I’ lnforme)
ومن نافل القول التأكيد على الاهتمام الذي كان يوليه نيتشه للموسيقى ودورها اما في ابراز روح
المأساة لدى الاغريق ،أو في ابعاد بعثها من جديد بفضل الموسيقى الألمانية الحديثة على يد بيتهوفن
وفاغنز .ان التنغيم هو أصل ومنبع الشعر ذاته،وما الشكل المقطعي (strophique) في الشعر سوى
تنغيم ،وبالتالي فأن أصل الشعر موسيقى ،وأول شكل الغنائي (Iyrisme)وهو في مجمله ترانيم وتراتيل
وانشاد بمعنى اخر هو موسيقى .لماذا تحتل الموسيقى أهمية كبرى في فلسفة نيتشه ؟لأن الموسيقى أقدر
شكل تعبيري على الجمع بين الحسي والموجود ،اما الجدل أو بالأحرى الميتافيزيقية فقد باعدت بينهما
وأقامت وجعلت بينهما هوة سحيقة.ان الموسيقى بما هي الشكل التعبيري الأكثر بدائية ،جديرة بأن
تعيدنا الى "المنسي"،الى الطبيعة ،الى الرعب ،الى ما ليس بعد موضوع تفكير .
هكذا جعلت استراتيجية نيتشه الفلسفية من الفن قطب الرحى لأي فلسفة ممكنة حتى يبتدى لنا بأن
الفلسفة مطالبة بأن تصير فنا .الفن يعيد للادارة قوتها ،ويجعلها قادرة على الاثبات وعلى الخروج
من النفي ،نفي ذاتها ،ونفي العلم في ان واحد .الفن هو فائض الارادة .ارادة القوة هي ارادة القوة
الديونيسية وتوقها للانطلاق والرقص والانتشاء .انها ارادة الخلق .ارادة القوة تمثل الحياة في اندفاعاتها
(Pulsions) الحيوية ولا تملك لنفسها خلاصا سوى الخلق .في الحياة تناقضات لا حل لها ،في خلاص مسيحي ولا في تجاوز جدلي هيجلي ،انها تعيش وتتغذى من تناقضاتها ،والفن حافز لها على تعميق
تناقضاتها .وهو خلق للمظاهر التي يجعلها ممكنة أن تعاش .فلا مكان للخلاص المسيحي ولا للوعي
الشقي .ان مفهوم الألم عند نيتشه هو مستلهم من روح المأساة ولا علاقه له بالألم المسيحي .فالألم
المسيحي عذاب بينما الألم المأساوي انتشاء .وحسب تأويل دولوز في كتابه (نيتشه والفلسفة) ان
الحياة لا تحل مشكلة الألم بواسطة استبطانه (Interiorisation) وبحسب دولوز هناك نوعان
من الألم :الألم من فرط الحياة ،والألم المدين للحياة .الألم الديونيزيسي باعث على النشوة ،والألم
المسيحي باعث على الفتور .وحده الفن خلاص ،لكنه خلاص أرضي (salutterrestre) باثباته
لقوة الحياة ،ولتعدد مظاهرها وتلونها ،ولقدرتها على تجاوز الوهن والفتور وهو وهن وفتور الارادة
ولكن الملاحظ ان الفن تعرض للانحطاط بسبب قضاء الجدل السقراطي قضاء مبرما على
روح المأساة واعلائه لغريزة المعرفة على ارادة القوة .ومن مظاهر تردي الفن في المرحلة
السقراطية صعود الدراما (Le Drame) التي لا تعتبر سوى وجهة الاخر للكلام والحوار
فتوارى الترنيم والانشاد المميز لروح المأساة .هيأت الدراما للدخول الى مرحلة "العقلاني"
الذي يعتبر الخصم اللدود "المرعب "السائد في الحياة .ودخل الفن قي مراحل انحطاط يتعين
على الفن الحديث الخروج منها وبعث روح المأساة من جديد للارتقاء الفن الى ان يكون
النشاط الميتافيزيقي بامتياز .
2- مفهوم الفن عند هيدجر :
ان الفكر والشعر (أو الفن ) ـ حسب هيدجر – مدعوان لمجاوزة الميتافيزيقية التي عرفت
اكتمالها وبالأحرى نهايتها مع نيتشه وبات مطروحا سلوك طريق اخر لتصوير العالم غير
طريق الميتافيزيقية ،وخاصة ميتافيزيقية الذاتية التي تأسست على يد ديكارت ،والتي تقدم
تصوراً للوجود بناء على تمثله كموضوع قابل للتملكAppropriation) ( ويعتبر هذا التصور
الخلفية المؤسسة للتقنيه الحديثة .
لقد قادتنا الميتافيزيقية الى نسيان الوجود ولعل الفن يعيدنا الى مسكن الوجود .ويجدر التوضيح
هنا أن هيدجر يستعمل كلمة شعر (Dichten)بالمعنى الواسع للدلالة على الفن .فالشعر لا
يختص به الشعراء وحدهم ،وكل فنان حق هو بالضرورة شاعر .
سنركز قولنا على الفن ،ونترك علاقته بالفكر .فما مفهوم الفن عند هيدجر ؟
وما الذي يمنحه هذة القدرة على تجاوز الميتافيزيقية وتلاقي نسيان الوجود ؟
الفن انكشاف لحقيقة الوجود ،وترك الوجود ،يوجدenir) (Laisser-V وتحول الاختفاء الى
تحجب(Aleteia) ان ماهية الفن هي ما يجعل الوجود يظهر ،والحقيقة تلتمع وتسطع.اذا كانت
ماهية الفن هي ترك الوجود يوجد ،والحقيقة تستطع ،فهذا لا يعني قطعا مطابقة الواقع ومحاكاتة.
لا ينبغي البحث عن حقيقة الفن خارج الفن ،أي في الواقع .ان حقيقة الفن ترقد داخله ،أي داخل
حضوره وانفتاحه.الفن انبجاس (Emergence) وظهور(Apparition) لعالم هو عالمه (welt) ولحقيقة هي حقيقته. فالفن هو راعي الوجود وحارسه. والفنان لا يعمل سوى على المتح مما يدخره الوجود والامتثال
لما يمليه عليه نداؤه ،وينزع منه ما يقدر عليه بواسطة هذا الخط (Reissen) ما بين العالم والأرض .الفن توتر ما بين هذين القطبين .الفنان لا يبدع شيئا من عنده ، بل يجد اللغة المناسبة لنداء الوجود .
ومن ثم كانت اللغة الأصلية ذاتها شعرا،والشعر بمعناه الواسع فنا .فما يكشفه الفن لا يمكن أن موضوع
تمثل (Re-Presentation) فلا دخل للحساب والذاتية في الفن .ان ما يكشفه هو من املاء الوجود
ووحيه .فلنعد الى الفن باعتباره توترا ما بين العالم والارض ،فما العالم ؟ وما الارض ؟
العالم انبجاس وانفراج “Eclaircie” بينما الأرض عتمة وظلمة .العالم ظهور والأرض انسحاب ،يستعمل
هيدجر الأرض بمعنى الأساس بما هي مسكن يستقر فية شعب تاريخي أصيل .(Historial) الفن توتر ما
بينهما وهو مطالب بتقريب العالم من الأرض ،والظهور من الاختفاء ،والمجيئ من الانسحاب.مهمة الفن
تأسيس الوجود ،ومن خلال اقامة عالم على أرض هي منبع كل الامكانات ودعوتها لأن تصير مستقرا ومسكنا للانسان .ولا يقصد هيدجر بالأرض الطبيعة ،ما دامت هذة الأخيرة خاضعة للحسابية
(Calculabite) والموضعة التقنية والعلمية منذ العصور الحديثة،حيث تم افراغها من أسرارها ،وصارت
مجالا لسيادة الانسان الحديث .فالطبيعة قد أفشت كل اسرارها ،اما الأرض فهي لاتظهر الا لتنسحب من
جديد ،انها،"اللانكشاف الذي يستعصى بطبيعته على كل انكشاف ."
يوفق الفن فيما أخفقت فيه الميتافيزيقية ألا وهو تأسيس الوجود واصاخة السمع لندائه بواسطة تسميته
(Nomination) فقوة التسمية تتعدى كونها مجرد اعطاء أسماء للأشياء ، انها ترك الوجود يوجد
فالأشياء المسماة مدعوة للانكشاف في الوجود .التسمية دعوة ونداء للأشياء كي توجد .انها تأسيس
للأشياء في الوجود .وهذا ما يعطي للغة في أهمية بالغة ،فمهمتها من أخطر المهام .يقول هايدجر
عن اللغة في كتابه "هولدرلين وماهية الشعر :"غير ان ما هية اللغة لا تستنفد كلها في كونها وسيلة
للفهم ...فاللغة ليست مجرد أداة يملكها الانسان الى جانب غيرها من الأدوات ،وانما اللغة هي بوجه
عام وقبل كل شيء، ما يضمن الوجود وسط موجود ينبغي أن يكون وجودا منكشفا .وهناك حيث
توجد لغة، يوجد عالم (...) وهناك حيث يوجد عالم يوجد تاريخ. فاللغة نعمة بمعنى أنها نعمة وضمان
لهذا العالم وهذا التاريخ ،بمعنى أنها تضمن أن يكون في استطاعته الانسان الوجود بوصفه كائنا
تاريخيا ."ان اللغة هي مسكن الوجود ،وهناك يكمن جلالها وخطورتها .انها حسب هيدجر "أخطر
النعم "وما دامت" أخطر النعم "،فهي أكثر من مجرد أداة وسيلة للتواصل ،انها كشف وانكشاف
فالوجود ينكشف في اللغة ،ومن تم فهيدجر لا يتفق مع النظرية التواصلية في اللغة .بقدر ما تكون
اللغة أخطر النعم فانها معرضة أكثر من غيرها للتخريبDevastation) ( وبالفعل فقد تحولت
بفعل هيمنة الذاتية الى أداة للسيطرة على الموجود : "ان اللغة تسلم نفسها لارادتنا المحضة والى
نشاطنا كأداة للسيطرة على الموجود "ويقول هيدجر في نفس الموضوع :"أن انحطاط اللغة ،الذي
نتكلم عنه منذ زمن قريب ،وبشكل متأخر ،ليس سببا ،وانما هو نتيجة لسيرورة تخلت اللغة بموجبها
وتحت هيمنة الميتافيزيقا الحديثة عن ذاتها .لا زالت اللغة تخفي ما هيتها عنها باعتبارها مسكن
الوجود "،(ص(Lettre Sur I’humanisme 82 حتى تنهض اللغة بمهمتها من جديد وكما
كانت لدى الفلاسفة ما قبل السقراطيين ،يجب تنقيتها مما علق بها من شوائب الأداتية .ومصدر
هذة النزعة الأداتية يعود بالأساس الى هيمنة ميتافيزيقية الذاتية .والشعر هو الكفيل برد الأعتبار
للغة كمسكن للوجود ،فما هي وظيفة الشعر وما مفهومه عند هيدجر ؟
يقول هيدجر :...بما أنه يظهر هذه القدرة الأصلية على التسمية .Nomination) ( وهي قدرة
اللغة في ما هيتها ،وليست قدرة الشاعر ،فكل شعر عظيم يحمل للغة ما يبقى مختفيا في اللغة
العادية ،التي تختزل في وظيفتها كأداة للتوصل ،أي الماهية الكاشفة للغة . (Essence devoilante)
فالشعر يعبر عن ما هيته في نفس الوقت الذي يعبر عن ما هيته كقصيدة أصلية ،كقصيدة صامته
لظهور الوجود "(الأرض في الأثر الفني والقصيدة (La terre dans I’ouvre d’artet le poeme page 191). ان الشعر يعيد للغة قدرتها على تسمية الأشياء ،ودعوتها لأن توجد . فاللغة بفضل الشعر
تستعيد قدرتها على تأسيس الوجود .وما اللغة سوى القصيدة البدائية لشعب تاريخي أصيل .(Peuple Historial) فهذة القصيدة الأصلية تعتبر منبع الشعر .وهنا نجد هيدجر يميز ويفرق بين القصيدة
(Poeme) والشعر (Poesie) فالقصيدة هي اللغة البدائية (Ursprache) والشعر يأتي بعد القصيدة
ويعيد قولها .(Nach-Sprechen) ولولا الشعر ما كانت قصيدة وما كانت لغة أصلية .ان اللغة حسب
هيدجر شعرنة للوجود (Poematisatisation) ولا يمكن للانسان أن يحيا على الأرض الا شعريا
وكما يقول هولدرين :غني بالمزايا هو الانسان لكنه
حيا على هذه الأرض شعريا " ان الشعر تأسيس للوجود ،والفنانون والشعراء رعاته وحماته .وبفضل
الشعر تتحول اللغة من امتلاك الموجود الى انكشاف الوجود .وكما يقول هولدرلين "ما يبقى يؤسسه
الشعراء "فالشعر لا يؤسس الوجود فحسب بل يؤسس التاريخ أيضا ،فالشعر في اخر المطاف سوى
الأرض كمسكن ومستقر .
نفهم مما سبق ان الفن في أرقى صوره شعر .وبما أن الفن حسب تعريف هيدجر هو تهيئ لانكشاف
الحقيقة،فانها لا تنكشف سوى بتكثيفها وهذا هو معنى الفعل ...
(Dichten) والمهمة العليا والأساسية للفن الشعري تتمثل في صياغة الحقيقة شعريا أو بعبارة أخرى
شعرنتها .Poematisation)) فالحقيقة تكشف نفسها شعريا مما يجعلها قصيدة”Poeme” أو لنقل
مكثفة في قصيدة . واللغة بالذات هي قصيدة الأصل .يأتي الشعر تاليا لها ليعيد ما تقوله .ان تكثيف
الحقيقة في قصيدة ،ثم اظهارها في الشعر تاليا ،يجعلها قابلة للظهور في فسحه الانفراج والاضاءة
(Eclairci_ Lichtung) وهو معنى قول هيدجر ان الشعر تأسيس (Instrauration) للوجود،
وتركه يوجد ،انه حماية ورعاية له.
ان كانت الأرض أساس (Grund) الفن ومسكنه ومستقره الأصلي (Heimtlicher-grund)
فهي ليست شيئا اخر سوى اللغة باعتبارها مسكن الوجود .يقول هيدجر "اللغة مسكن الوجود وفي
أحضانها يسكن الانسان (Lettre_Page74) "يحاول الفن أو الشعر تأسيس عالم هو بمثابة
اضاءة على أرض هي اللغة البدائية ،ومحاولة صياغتها وحملها على الظهور رغم استعصائها
وتمنعها وانسحابها الدائم ،وذلك في حيز اضاءة ولمعان . هناك لغة بدئية تتجسد في القصيدة ،وهي
موجودة قبل الفن أو الشعر ،الذي يعيد قول القصيدة –الأصل وصياغتها شعريا .وبذلك يكون الفن
تاسيسا للوجود من خلال شعرنته .الفن استلهام للقصيدة الأصل،والفنان لا يبدع شيئا ،اذ تحيل
مقولة الابداع على الذاتية .وهذا ما يروم هيدجر نقده جذريا .الابداع في نظر هيدجر مقولة ضاربة
في تربة انطوتيلوجية (Onto-Theologique) ويحيل رأسا الى العقيدة التوراتية. يقول هيدجر "تبعا للقصيدة التوراتية فان مجموع الموجودات شيء مخلوق ،ونقصد بذلك شيء مصنوع (Chemins Page 28.29) "الفنان لا يبدع شيئا،بل يمتح من الوجود ،ويصيخ له السمع وينتشله من النسيان ،ويتركه يوجد
ويدعوه للظهور.وفي عمله ذلك ،يحاول أن ينتزع منه أثرا بضربة خط (Reisseur) ينقل هيدجر عن دورير (Durer) قوله :"في الحقيقة ان الفن يختفي بالطبيعة زمن يستطيع انتزاعه منها بضربة خط يملكه
(Chemins Page 79). يقول هيدجر في مكان اخر "الأثر الفني بدون أدنى شك يصير فعليا ويأتي للوجود
بواسطة حركة الرسم والكتابة هو انفتاح الحقيقة ذاتها كدائرة أوسع تحتوي سلفا الأثر الفني والفنان معا "
(Chemins Page 195). ويضيف "أنمن يخط الدائرة الأوسع وليس الفنان وانما الحقيقة ذاتها في انكشافها
(Chemins Page 195). وحتى ان سلمنا بمقولة الابداع ،فليس الفنان هو المبدع ،بل الحقيقة هي المبدعة
وتبدع أثناء انكشافها .حقا ان الأشكال الفنية تتوقف على الفنان لاخراجها في شكل عمل أو أثر فني ،وتجد ارهاصاتها ومقدماتها في الحقيقة التي تظهر وتختفي .فالحقيقة تؤسس الفن والفن يستجيب لندائها .الحقيقة عهدة في يد الفنان ،والفنان مرتهن لها .توجد علاقة تأسيس متبادل .الفنان لا يعمل سوى النظم والتركيب وفي هذا السياق تفهم عبارة موزارت المشهورة "أنني أبحث عن أنغام تقع في هيام بعضها البعض ".
وحتى الفعل الألماني (Dichten) يفيد الجمع والنظم والتركيب ،و (Dichtung) تفيد التكثيف والجمع
في قصيدة ،بمعنى نظم الوجود في قصيدة .